نبع السلام المر
يوجد أكثر من مدخل لفهم العملبية العسكرية التركية العدوانية على شمال سورية، لكن في المجمل فإن جميع المقاربات السياسية والاستراتيجية المطروحة حاليا غير قادرة على تقديم فهم شامل للطريقة التي اتخذت فيها القرارات الاستراتيجية بشن هذا الهجوم الواسع وتوقيته، ولا الطريقة التي تأخذ فيها بعض دول صنع القرار في العالم مواقفها، وعلى الرغم من الاصرار التركي التاريخي الذي يمنع ظهور أي كيانية كردية بالقرب من حدودها إلا أن العملية العسكرية الحالية تحمل في طياتها مثالا حيا على تحولات جوهرية لم يشهدها النظام الدولي وحالة اصطفاف لم يعهدها عالم ما بعد انهيار جدار برلين.
الولايات المتحدة ذهبت في قرارها بسحب قواتها من الشمال السوري وفي توجيه ضربة لحلفائها الكرد في الصميم إلى لحظة تؤكد فيها ما أصاب العلاقات الدولية من خراب غير مسبوق استراتيجيا واخلاقيا، فلطالما كاتت السياسة الخارجية الأميركية لا تحتفظ بالحلفاء، ولكن هذه المرة جاءت الصدمة قاسية وضربت بكل القيم السياسية التي تسوقها الإدارة الأميركية تاريخيا وتحمل رسائل بالغة الخطورة للأخرين. وبينما فتح الرئيس الاميركي الطريق امام ارتال الدبابات التركية منح الاكراد بضع كلمات واخذ يهدد تركيا بضرب اقتصادها إذا تجاوزت الحدود المسموح بها.
وربما يبدو التناقض الظاهر في المواقف الأميركية واحدا من أكثر الرسائل قسوة التي من المفترض أن يفهمها حلفاء الولايات المتحدة في المنطقة وتحديدا دول الخليج، في الوقت الذي شكل وجود القوات الكردية المدعومة من الولايات المتحدة في شمال سورية ضمانا ضد توسع المشروع الإيراني، فطهران أرادت السيطرة على الحدود السورية (دير الزور – المناطق الكردية) لتشكل كاريدور من العراق مرورا بكردستان سورية ونحو الحدود اللبنانية، وهو الأمر الذي حال دون تبلوره وجود القوات الكردية والدعم الأميركي لها.
بينما يبدو الموقف الروسي أكثر تعقيدا وخيبة للأمل؛ والذي تجلى في التصويت ضد القرار الأممي الذي تبنته دول أوروبية لادانة العدوان، الروسي منح حليفه السوري بضع كلمات ايضا “ضرورة احترام سيادة سورية ووحدة أراضيها وسلامتها الإقليمية وعدم تعريض الجهود الرامية إلى حل الأزمة للضرر”.!
العملية التركية المسماة (نبع السلام) هي عقاب واقعي للكرد على مقاومتهم التاريخية للتنظيمات الإرهابية وعلى رأسها تنظيم الدولة “داعش”، ومحاولة لوأد جديد الحلم الكردي الذي لم يتوقف الكرد في النضال من اجله منذ مطلع القرن العشرين الماضي.
صحيح أن الكرد ارتكبوا سلسلة من الأخطاء في تحالفاتهم. وهم يقفون اليوم وحدهم، ولكن هذا الأمر لا ينكر حقهم في تقرير المصير، وصحيح ان هذا الحق تعكره بعض المواقف والتحالفات، في المقابل فإن هذه النتيجة تثبت فشل الدولة الوطنية سواء العربية المتمثلة في العراق او سورية او في ايران وتركيا في بناء كيانات تستوعب كل مواطنيها.
لقد دفع فشل السياسة العربية في العقود الثلاثة الماضية الكرد الى بناء تحالفات الضرورة المرفوضة ومنها نسج علاقات مع إسرائيل وبات بعض هذه العلاقات مناقضا للمصالح العربية، ومع هذا كانت الانظمة العربية المشتبكة مع الحالة الكردية وهي العراق وسورية أكثر تسامحا مع الكرد على طوال فترات الصراع على الرغم من كل ما حدث وما يقال، حيث مُنح الاكراد الحكم الذاتي في شمال العراق منذ العام 1970 ومنح السوريون الجنسية لكل الكرد على اراضيها، ومع هذا لم يفلح العرب في بناء تحالفات قوية تجعل الامة التاريخية الرابعة في المنطقة حليفة حقيقية.
حالة المواقف العربية من المسألة الكردية الراهنة تعكس من جهة حجم ارتهان الارادة العربية بشكل مفجع للقوى الاقليمية مقابل التناقض الذي يجعل اسرائيل تبدو الكيان الاقليمي الوحيد الذي يقدم خطابا سياسيا حريصا على حق تقرير المصير للشعوب. في هذه اللحظة يبدو الصراع فوق الأرض السورية والعراقية بين المشروعين الإيراني والتركي واضحا، والطرفان لديهما استعدادات للتهدئة وإدارة الصراع بينما يلتقيان على بناء مستقبلهما الاستراتيجي على حساب العرب والكرد، وهكذا يدار الصراع ليس في العراق وسورية فحسب بل وفي الخليج ايضا.
الغد - الجمعة 11-10-2019