العنف خرج بالضبط من هنا
كل ما يمكن ان يقال عن اسباب العنف في بلداننا، اوالانفلات الأمني والأخلاقي في مجتمعنا يبدو صحيحاً، سواء تعلق بالانسدادات» السياسية، او الأوضاع الاقتصادية، أو تراجع منسوب العدالة في التعليم والخدمات العامة، أو بالتحولات القيمية التي أصابت مجتمعنا، لكن ثمة سببا آخر مهم وهو مخزون «العنف» في شخصيتنا العربية الذي يستند الى «تراث» طويل وعميق تشكل على هوامش فهم غير صحيح للدين وللعروبة ايضا.
لكي نفهم ذلك لا بأس أن نوسع دائرة نظرنا إلى العالم والأمم المحيطة بنا، سنكتشف أن «العنف» موجود لديها، لكنه لا يشكل السمة الأساسية لشخصيتها، بخاصة بعد أن «تعافت» من صراعاتها وحسمت أمرها نحو «الديمقراطية» التي مكنتها من اقامة «مشروعات» نهضة وتنمية خاصة بها، على خلاف ذلك فإن العنوان الذي ما زالت أمتنا قابعة فيه هو عنوان «العنف» والصراع.. بما فيه من مشاهد القتل والدم والحروب بأشكالها المختلفة.
إذا سألتني: كيف حدث ذلك، سأجيب على الفور بأن أمتنا انشغلت على مدى تاريخها الطويل بمشروعين اثنين، أفرغت فيهما كل امكانياتها، وجندت من أجلهما طاقاتها، وهما: مشروع «الفتنة» ومشروع «المحنة»، الأول خرج من دائرة توظيف الدين لمصلحة السياسة، وتسبب بشق «المجتمع» الإسلامي، وانتهى بالأمة الى الركون لحالة من «الاستبداد» والحكم المطلق، صحيح أنها استطاعت أن تتجاوز آثاره السلبية في بعض المراحل والفترات، وأن تحقق انجازات غير مسبوقة في مجالات العلم والفتح و»الحضارة» عموما، لكن الصحيح أيضا أن اسوأ ما انتجته هذه «الفتنة» هو «قابلية» العنف التي وجدت من يؤسس لها فكرياً وعملياً، حتى جاء المشروع الآخر الذي يشكل الوجه الثاني «للفتنة» وهو مشروع «المحنة» هذا الذي يختلف عن «الفتنة» في انحساره بالمواجهة بين «النخب» السياسية والدينية، حيث استخدم الدين «سياسياً» لتمكين السلطة من الإطباق على المجتمع وتعميم منطق «الطاعة» عليه، وبالتالي أصبح «العنف» مرجعية لهذين المشروعين، وتأسست «الذات» العربية التي جاء الوحي ليحررها من الخوف والحقد والضغائن ويحثها على السماحة واللين والتقوى والوحدة، على «مبدأ» العنف الذي بموجبه انتصرت الغلبة والقوة و»العصبية» والقبلية على القيم الأخرى الفاضلة كالعلم والأخلاق وسيادة الدولة والعمران..الخ.
كان الدين - للأسف - حاضراً في «المشروعين»: مشروع «الفتنة» ومشروع «المحنة» لكن الدين هنا لم يكن ممثلا «بالنصوص» السامية بل ببعض الأشخاص الذين فهموه وباشروه بممارساتهم، وبالمجال «العام» السياسي الذي تحركوا فيه، وبالتالي فإن «مصدر» العنف خرج بالضبط من هنا، حيث اصطدم منطق الدين بمنطق السياسة، بكل ما احتملت السياسية من شهوات واجتهادات ومحاولات لبناء الدولة والسلطات على حساب بناء المجتمع والإنسان.
المشكلة أننا تعاملنا - وما نزال - مع هذين المشروعين وما انتجاهما من عنف بمنطق «التقديس» للتاريخ والاشخاص، ولم نسمح لأنفسنا بمراجعة ناقدة لما حدث، وبالتالي فإننا ندفع الآن ثمن هذا «الصمت» بمزيد من «القابلية» والاستعداد لتدمير انفسنا بأنفسنا، فيما الآخرون «يتفرجون علينا، شامتين أحياناً ومشفقين احياناً أخرى!!
الدستور -