اتفاق «غامض» و«مفخّخ»
النقاط الثلاث عشرة التي تمخّض عنها اجتماع الساعات الخمس الذي جمع الرئيس التركي بنائب الرئيس الأمريكي وصحبهما، لا تعطي فكرة حقيقة عمّا جرى التوافق عليه في الكواليس وخلف الأبواب المغلقة، وبكل تأكيد، فإنها لا تبعث على التفاؤل في إمكانية الوصول إلى حل سياسي – تفاوضي للأزمة متعددة الأطراف في شمال سوريا الشرقي، والأرجح أن مهلة الساعات الـ «120» التي جرى الكشف عنها، وأسمتها أنقرة «تعليق» العمليات، ووصفتها واشنطن بوقف إطلاق نار، ستنتهي قبل أن تتمكن الأطراف بالوفاء بأي من التزاماتها الجدية.
صرنا نعرف عمق «المنطقة الآمنة» التي تطالب بها أنقرة منذ العام 2012 من دون جدوى، بيد أننا لم نعرف بعد شيئاً عن عرض هذه المنطقة ... تركيا تطالب بامتدادها على طول الحدود السورية – التركية، لأكثر من 450 كم، في حين تقول مصادر الأكراد، أنها مجرد شريط، يمتد في حده الأقصى بين راس العين وتل أبيض (110 كم)، وبعمق أقل مما تطمح له تركيا.
لم يخبرنا أحد ما إن كانت هذه «المنطقة الآمنة» ستضم مدناً سوريا كثيفة السكان، من نوع عين العرب والقامشلي وغيرها من قرى وبلدات (تل عيسى على سبيل المثال)، والتي انتشر فيها الجيش السوري فعلياً، وبالتوافق مع الأكراد، وبرعاية من الشرطة العسكرية الروسية ... هل سيطلب إلى هذه القوات العودة إلى نقاط انطلاقها؟ ... وهل ستستجيب؟ ... وما مصير الاتفاق الكردي – السوري، بعد الاتفاق الأمريكي – التركي... وهل ستقبل «قسد» و»مسد» بتفرد تركيا في تدبير الشأن الإداري والأمني في هذه المناطق التي تزيد مساحتها عن مساحة لبنان بخمسين بالمئة؟
ثم ما هي آليات تنفيذ هذا الاتفاق؟ ... ومن هي الجهة التي ستشرف على انسحاب وحدات الحماية و»قسد» من هذه المنطقة؟ ... من الذي سيراقب تدمير أسلحتها الثقيلة بعيدة ومتوسطة المدى؟ ... من الذي سيتأكد من تدمير الدشم والتحصينات؟ ... في أية مناطق وضمن أي مدى زمني؟ ... وكيف يمكن الحيلولة دون انتقال آلاف الأطنان والأسلحة الأمريكية من أيادي الكرد إلى مستودعات الجيش السوري وحلفائه؟
لقد رحب قائد «قسد» بوقف إطلاق النار، وأبدى استعداد قواته للاستجابة له، لكن حتى بعد إبرام اتفاق أردوغان – بنس بحوالي 20 ساعة، لم تكن قد اتضحت تفاصيل المقترح، ولا «ساعة الصفر» لصمت المدافع ... لا يعرف أحدٌ كيف يمكن «فض الاشتباك» بين قوات الجيش التركي والمليشيات الموالية له من جهة، ووحدات الحماية و»قسد» من جهة ثانية، سيما في نقاط التماس والاشتباك ... لا أحد كلّف نفسه عناء البوح بما جرى خلف جدران سميكة من التعتيم والتكتم.
يبدو أن الرئيسين التركي والأمريكي، كانا بحاجة للاتفاق، أي اتفاق، بل وكانا يستعجلانه ... أردوغان لتفادي موجة شديدة من العقوبات الأمريكي لوّح بها الرئيس مدفوعاً بإجماع من الكونغرس من الحزبين ... والثاني لتفادي مواجهة تزداد تفاقماً مع مجلسي النواب والشيوخ ومؤسسات «الدولة العميقة» ومن داخل الحزب الجمهوري.
كان واضحاً عشية الاتفاق، أن من سيدفع ثمن «المغامرة الأردوغانية» هو أردوغان شخصياً ومن أعطاه الضوء الأخضر للشروع بالعملية ... ترامب قفز من مركب أردوغان المبحر بلا بوصلة في بحر هائج، وأمر بنشر واحدة من «أوقح» الرسائل المتبادلة بين رؤساء الدولة وأكثرها إسفافاً في المبنى والمعنى، كيلا يقال إنه منح ضوءاً أخضر ... لكن أردوغان، كان يرقب بكثير من القلق والتوتر، كيف انقلب العالم بأسره عليه وعلى بلاده، وكيف أنه شارف على الانزلاق في مستنقع قد لا يخرج منه وحزبه الحاكم، سليمين أبداً.
لكن السؤال الذي ما زال يضغط على العقول: وهل سيوفر الاتفاق «المفخخ» و»الغامض» للرجلين «طوق النجاة» المطلوب؟ ... الجواب لن نجده في نقاط الاتفاق التركي – الأمريكي الثلاثة عشرة.