تبولة لبنانية وكليجة عراقية
كنا عائلة واحدة، متفقين في اللغة والتاريخ واللباس والذوق والحديث والحزن والفرح، منا اللبناني والعراقي والسوري والأردني والفلسطيني والتونسي والمغربي، المسلم السني والشيعي، المسيحي الكاثوليكي والبروتسنتي والقبطي، ومنا الدرزي وحتى الصابئي، ومختلفين في الدين فقط، منصهرين في العروبة و»لكم دينكم ولي دين «.
جمع هؤلاء بناية واحدة في منطقة السالمية بالكويت، كنا في مقتبل العمر، ازواجا وزوجات حديثي الزواج، اكبر عائلة لديها ثلاثة أطفال كبيرهم في الخامسة، الرجال يعودون من اعمالهم ليجدوا النساء جالسات في حديقة البناية، هي ليست حديقة بالضبط، مساحة خضراء بعرض متر ونصف المتر تحيط بالبناية من جهات ثلاث، فيها الورد والشجر و..الحب، يتحدثن في كل شيء، كل شيء ما عدا السياسة.
الطبخ،الأطفال، الأزياء، المسلسلات، المسرحيات وكانت الأشهر أيامها مدرسة المشاغبين، وباي باي لندن، ودرب الزلق، رحم الله عبد الحسين عبد الرضا والنفيسي واحمد زكي وابنه هيثم الذي توفي قبل أيام وسعيد صالح، واطال في عمر عادل امام وسعد الفرج وطبعاً ماما أنيسة.
وقتها كان لبنان خارجاً من الحرب الأهلية التي كانت شرارتها باص عين الرمانة، واذ بالقصة قلوب مليانة، حصدت الحرب ما حصدت من أرواح وأموال ووحدة وطنية، انتهت بجهود العرب وأولهم الشيخ صباح الأحمد أمير الكويت الذي كان آنذاك وزيراً للخارجية، وتوجت بمؤتمر الطائف بالسعودية.
ووقتها أيضاً اندلعت الانتفاضة الفلسطينية الاولى. كانت شرارتها قيام سائق شاحنة اسرائيلي باطلاق النار على عمال فلسطينيين على معبر ايريز الذي يفصل غزة عن فلسطين المحتلة 1948 ثم ما لبثت ان امتدت الى كافة المدن والقرى الفلسطينية.أيقظت العالم على ممارسات الاحتلال النازية فدخلت كلمة «انتفاضة» قواميس اللغات غير العربية فيما دخلت القضية الفلسطينية منعطفاً جديداً أدى الى نفق أوسلو الذي يرى البعض في آخره ضوءا بينما يرى البعض الآخر أن آخره صلاة بدون وضوءغير مقبولة ولم تؤد الى جنة الحلم الفلسطيني.
كان الهم الفلسطيني هو ما يشغلنا نحن الأزواج العائدون من العمل ومنا المهندس والمدرس والصحافي والتاجر. لم تكن هناك «فلسطينات « الصومال والعراق وسوريا وليبيا واليمن وغيرها، ولم يكن ثمة «لاجئين» غير الفلسطينيين، لا عراقيين ولا سوريين ولا ليبيين ركبوا البحر هرباً من جحيم الحرب فغرق منهم في الماء من غرق ومن نجا غرق في الغربة.
كان النقاش يحتد فتتدخل النساء بصحن تبولة لبنانية وآخر بكليجة عراقية ومفتول فلسطيني ومنسف أردني وكبة سورية.
بعد كل هذه السنين وما جرى خلالها، نتذكر بألم الجيران الاخوة، منهم من عاد الى بلده قبل ان يجمع ثمن بيت يبنيه ليقي أبناءه برد الحياة ويقي نفسه قسوة آخر العمر، ومنهم من هاجر الى أميركا أو كندا أو استراليا، ومنهم من لم نعد ندري اين هم.
بعدما كانت تجمعنا تلك البناية في السالمية وتذوب فيها الطائفية والاقليمية والمذهبية، للاسف، أعادونا الى هذا العدو الذي ما كان يوما الا ما يفرقنا ويضعفنا واحداً واحداً لنواجه العدو الأشرس الفساد والتدخلات الأجنبية في رغيف الخبز وكمكمة الأفواه وخنق الأرواح.
ها هم اللبنانيون يثورون على الطبقة الحاكمة بعد أن أصبحت قيمة الليرة في الحضيض فيما ارتفعت أرصدة النخبة الى أرقام قياسية، امتلأت حساباتهم بالدولارات فيما تمتلىء معدات اللبنانيين بالجوع وجيوبهم بالخواء، لا يستثني المتظاهرون أحداً من النخبة « كلن يعني كلن».
أما العراقيون فمصيبتهم أكبر. ثورتهم على قدر ابتلائهم بمن تسلموا الحكم منذ الاحتلال الاميركي لبلادهم فأثروا وفسدوا وأفسدوا وشبعوا نفطاً ومالاً وتركوا الناس ضحية لغول البطالة والجوع، نهبوا الثروة فحقت عليهم الثورة.
ولأن الاقتصاد سياسة والسياسة اقتصاد فان لما يجري في لبنان والعراق مسببات وأبعاداً سياسية داخلية وخارجية، وهذه الـ»خارجية» هي التي هدفها احراق النخل وقتل الأرز وتسميم طعم الكليجة والتبولة.
أما الفلسطينيون في بطن الحوت فلا بواكي لهم !
الدستور -