البحث عن هوية
أيا كان التوصيف الذي يستخدمه الافراد لعلاقتهم بالدولة والمجتمع فما تزال هذه العلاقة مضطربة واضعف بكثير من الانتماء الذي يشعر به الفرد للعائلة والعشيرة والطائفة والجهة والمجموعة العرقية. الضعف الملحوظ في الانتماء للدولة والمؤسسات يظهر من خلال الاستعداد للعمل ومستوى المشاركة في انشطتها وبرامجها ومدى تقبل خطابها والامتثال للقوانين. حالة النقد والتندر والاعتداء على المال العام ورفض الانصياع للأوامر والتعليمات والبحث عن طرق جديدة للتهرب الضريبي واشكال الخروج على القوانين نتائج طبيعية للسلوك والتصنيفات التي تقوم بها الدولة وبعد ممارسات اللاعبين الاساسيين عن الشفافية والعدل والموضوعية في مخاطبة المكونات الاجتماعية وتوزيع الخدمة والرعاية عليهم. في الأردن ما تزال الدولة تنظر للأردنيين كقبائل وعشائر وطوائف وجهات اكثر مما تراهم كمواطنين يتمتعون بحقوق متساوية في مجتمع مدني له بناؤه وتنظيمه القائم على التخصص وتقسيم العمل والتكامل بين الادوار التي ينهض بها الافراد.
بالرغم من استمراء الفئات المستفيدة من هذا التصنيف ومحاولاتهم تعميق الممارسة بحجة الاوضاع الخاصة التي تمر بها البلاد وعدم جاهزية الأردن للانتقال نحو نظم حديثة الا ان هناك اسئلة متكررة يطرحها الناس حول اسباب تأخر ظهور الهوية الجامعة التي توحد الناس وتدفع بهم للعمل المشترك نحو رفعة الأردن والمشاركة في تحقيق اولوياته واهدافه.
باستثناء القضية الفلسطينية وحقوق الشعب الفلسطيني بالارض والهوية والكيان لا يوجد اجماع على ما ينبغي ان نقوم به جميعا فهناك خلافات حول كل شي. الاستطلاعات المتتالية تكشف عن قصور في الأداء وضعف في السياسات وغياب للتأييد الشعبي للسياسات الحكومية والاصلاحات الاقتصادية والادارية وتدنّ لمستويات الثقة بإدارة الموارد وإنجاز العدالة. باستثناء الفئات المستفيدة من الاوضاع الراهنة يشكو الناس من المديونية والعجز والفقر والبطالة واساليب ادارة الانتخابات واختيار المسؤولين.
الشرخ القائم بين السياسات الحكومية والمواقف والردود الشعبية الرافضة لها دفع بصناع القرار لاتهام كل من يعارض توجهاتهم بالشعبوية في اشارة الى توافق ما يقال مع الرأي العام. الكثير من الساسة وصناع القرار تسابقوا في النأي بأنفسهم عن الشعبوية. منذ عقود والأردنيون ينتظرون من يخلصهم من هذه الضبابية. في كل مرة تشكل فيها حكومة جديدة او يظهر في البيروقراطية الأردنية شخصية واعدة يستبشر الناس خيرا وتنبعث في نفوسهم الآمال بالخروج من حالة الغموض والسير نحو مشروع وطني لبناء الهوية برؤى وأفكار وإسهامات وطنية. وقبل أن يستكمل الفرح تتبدد الأحلام وتختفي الآمال ليعود الناس إلى حالة من الترقب والانتظار.
العقم الذي اتسمت به النخب السياسية وكنتيجة لتأخر ظهور من يتبنى استكمال مشروع بناء الهوية يستذكر الأردنيون الشهيد وصفي التل ويترحمون على أيامه. يُجمع الأردنيون على ان لا احد يحظى بما حظي به وصفي من حب وتقدير فقد علق في الذاكرة الوطنية واصبح ايقونة لكل القيم والمعاني والسمات التي يتطلع الناس لوجودها في الرجالات والافراد الذين يتولون الموقع العام.
الرجل الذي تعلم في مدارس الأردن وتنقل بين العراق وسورية ولبنان وفلسطين وشارك في الحرب العالمية الثانية قبل ان يلتحق بكتائب المتطوعين العرب في فلسطين في ذروة الصراع العربي مع المنظمات اليهودية بذل ما في وسعه لتأسيس خطاب اعلامي نهضوي يوحد المشاعر ويحشد الطاقات لبناء وتأسيس هوية وطنية جامعة تعرف الشخصية وتحدد رسالتها ومواطن قوتها وترسم الاهداف وتستعيد الثقة وتخلق العقيدة بحتمية النصر.
في منهج الراحل لا مكان للظلم او القمع فهناك اصرار على بناء الروح المعنوية وازالة المعوقات وتعزيز الكرامة فلا تجاوز ولا افساد ولا كسل ولا تخاذل ولا شيء يتقدم على مصلحة الوطن. في عقيدة وصفي تتقدم الزراعة على التجارة فهي التمرين الاول لبناء العلاقة مع الارض وتفكيك شيفرة المواطنة والانتماء.
تحت وابل الاتهامات العربية ومساعي قادة الاقطار العربية من الثوار اضطر وصفي ومعه العشرات الى بلورة خطاب أردني يقف في وجه مشاعر العداء العربي فحسن استخدام الاذاعة لبث خطاب الهوية الرامي الى دمج مكونات المجتمع في بناء سياسي يشعر الناس بالفخر والطمأنينة ويوفر لهم الرعاية والخدمات. لم تبق محافظة او مدينة او قرية لم يتوقف فيها وصفي ويصافح رجالاتها واطفالها فأصبح اسما على شفاه كل الأردنيين.
اليوم ومع اقترابنا من مئوية الدولة ومرور ما يقارب نصف قرن على رحيل الشهيد يتعاظم الحنين فما يزال مشروعه معلقا وكرسيه فارغا وصورة انجازاته حاضرة.
الغد - السبت 18-1-2020