الترجمة ضحية لثقافة خائفة..!
هل ينبغي أن تُخضع الترجمة لأحكام قيمة غير أمانة الترجمة؟ أي: هل ينبغي تقدير أهلية العمل الأجنبي للترجمة على أساس مدى “توافق” محتواه وقراءاته ورؤاه مع ثقافة اللغة الهدف؟
من المسلم به أولاً أن العرب الآن هم من أقل الأمم ترجمة إلى لغتهم من الثقافات الأخرى. وثمة الكثير من أسباب هذا القصور الذي يساهم في مفاقمة العوز المعرفي الذي يميز هذه الأمة. لكن من أهمها الانتقائية المفرطة والمحددات الصارمة لما يُسمح بترجمته إلى العربية. ويبرَّر الرفض بلا أخلاقية الطرح الآخر بالمعايير المحلية؛ أو تصوراته المعادية لثقافتنا؛ أو قراءته المختلفة للعالم الطبيعي وفوق-الطبيعي، أو اختلافه مع التفسير الثيولوجي السائد والمقدس المحلي، وهكذا.
يفكر الناشرون التجاريون عند انتقاء مادة الترجمة بالخيارات التسويقية ومزاجات الرقباء في الدول العربية المختلفة. ويُفضل أن يختاروا شيئاً لن تحظره الدول العربية الغنية التي يتمتع مواطنوها بالقدرة المادية الأعلى على استهلاك الكتاب –والتي يغلب أن تكون شروطها أكثر تضييقاً. وفي المؤسسات غير الربحية التي تشرف على الترجمة، يجري انتخاب المواد التي تُترجم على أساس اهتماماتها الخاصة، ويغلب أن توزّع كتبها في نطاق ضيق ونخبوي. كما أن عملها في هذا الشأن أيضاً مشروط بمزاج رقيب المطبوعات المحلي.
وللاعتبارات التجارية أيضاً، يقبل الناشرون على ترجمة روايات الراشدين واليافعين وقصص الأطفال غالبا -وقد تنجح أيضاً مذكرات السياسيين وقصص المغامرات والجواسيس. وهذه بالتأكيد “أبيَعُ” من كتب الفلسفة والاقتصاد السياسي والاجتماع. كما أن كتب الفلسفة والأنثروبولوجيا وعلم النفس واللاهوت يمكن كثيراً أن تكون “ملغومة” بالمحظورات الكثيرة هنا. ويظهر بوضوح الآن أن المادة يتم اختيارها للترجمة هي عكس المادة التي اختارتها المؤسسات في بداية تكوين الحضارة العربية الإسلامية. في ذلك الحين، لم يعطوا الأولوية لترجمة المسرحيات والملاحم الإغريقية على ترجمة الفلسفة والهندسة والمنطق والرياضيات.
بطبيعة الحال، ترجمة الأدب مهمة –وخاضعة هي الأخرى للمحدّدات- لكنها لا تكفي لتأهيلنا لتكوين رؤية عالمية واعية في عالم يزداد تعقيدا. ولا تكفي أيضاً المواد الاستهلاكية المتاحة في سياق “عولمة المعلومات”، والتي لا تفيد الجميع بدورها من دون ترجمة. كما أننا نجهل إلى حد كبير نتاج الثقافات غير الناطقة بالإنجليزية والفرنسية والإسبانية والروسية -وربما الألمانية، أي معظم شرق وجنوب شرق آسيا وجزء كبير من أفريقيا التي تنتج باللغات المحلية.
كل هذه المحددات المفروضة على الترجمة، بالإضافة إلى القيود المفروضة أساساً على نتاجات المفكرين والأدباء العرب، تجعل المشهد المعرفي العربي محزناً، ولا تترك للكتاب العرب والمترجمين زاوية ضيقة هي “التصرُّف”. وفيه، على الكاتب أن يجترح طرقا للالتفاف على المعنى والعبث باللغة لمحاولة إيصال فكرته مع إمكانية التنصل منها على أساس احتمالات التأويل. وعلى المترجم فعل شيء مشابه، أو تجريد النص من الكلمات والعبارات الممنوعة بالحذف أو “تكييف” المعنى مع مقتضى الحال.
لخص أحد الخطباء مؤخراً الفكرة في ما سماه “مسؤولية الكلمة”، وتعني هذه المسؤولية، حسب تعريفه، ألا يمس المرء في كلامه بـ”العلماء”، أو الأفكار والأشخاص، والأعراف والمشاعر العامة. وسوف تعني هذه “المسؤولية”، بالمعاني التي يجري ترويجها، إسكات أي جديد مختلف أو اقتراح أو إذاعة لرأي الآخر. ويمكن بهذا المقياس اعتبار ترجمة ونشر الكثير من كلمات الثقافات الأخرى خيانة لـ”مسؤولية الكلمة”، لأنها قد تشوّش استقرار العقل العام. ومن أوضح الأمثلة رفض ترجمة الأدبيات العبرية إلى العربية، مع أننا أكثر المعنيين بمعرفة ماذا يقولون على أساس القاعدة الذهبية: “اعرف عدوك”.
التبرير الجامع لهذه الانعزالية المرّضية هو “الخوف على الثقافة” من الأفكار الدخيلة التي قد تشوش “نقاءها” المفترض . لكنه في الحقيقة “خوف”، نقطة! وترعى السلطات المتحجرة تنمية هذا الخوف في الشخصية الفردية والجمعية. لكن هذا الخوف لا يجنب أصحابه المتاعب؛ فالآخرون الجريئون يأتون إلينا ويحقّقون مخطوطاتنا ويترجمون أدبياتنا ويستشرقوننا بعد ويضعون خلاصاتهم أمام صناع القرار وقادة الجيوش، والإعلام الذي يبرر للرأي العام اجتياحنا. وفي المقابل، يبقى الكثير من الأفكار والاقتراحات العظيمة محبوسة في صدور الكثيرين هنا وترحل معهم، وتبقى أفكار الآخرين التي لديها مساحة للإعلان موقوفة في نقاطنا الحدودية.
الغد - الاحد 26-1-2020