دع القلق وتصالح مع الحياة
الليل جميل ، آخره نهار، يقول المتفائل . النهار تعيس ، آخره ليل يقول المتشائم. وثمة منطقة رمادية لكنها قصيرة . لحظات ويتبين الخيط الأبيض من الخيط الأسود ويولد الفجر. لحظات تزحف الشمس الى مخدعها رويداً رويداً فترسم لوحة ساحرة للغروب ثم تلقي علينا عباءة الليل السوداء يرتديها لتخفي ما نريد اخفاءه ونسكن الى النوم .
لكن الحقيقة أن اليوم الواحد نهار وليل ، أبيض وأسود ، فرح وحزن ، تعب وراحة .ليس ثمة فرح حزين أو عتمة مضيئة الا في خيال الشعراء . علينا أن نتقبل الحياة كما هي ، نحاول أن نوازن لنتوازن . لا مدينة فاضلة الا عند افلاطون ،لا مثالية الا في التماثيل التي لا تصيب ولا تخطىء و..لا تتحرك ، ولا هروب من القلق الا عند دانييل كارنيجي .
كارنيجي هو الذي ورطني منذ صغري بكتابه «دع القلق وابدأ الحياة» الذي يعد من بين اشهر الكتب في التاريخ وترجم الى 56 لغة في العالم . فانضممت الى فئة المتفائلين وأحياناً الرماديين لكن ليس السوداويين . اصبحت أرى النصف المملوء من الكأس ، افترض حسن النية قبل سوئها ، انظر الى الايجابيات قبل السلبيات . مع السنين تراكمت السلبيات ، اصبحت كالصدأ يغطي المفتاح الذي ضاق عليه القفل . لكني ، كلما أُغلق بابا افتح آخر .
طبع الكتاب لأول مرة في بريطانيا العام 1948 من قبل ريتشارد كلاي، يقول كارنيجي في مقدمة كتابه «كيف نتوقف عن القلق والبدء في الحياة» أنه كتب ذلك لأنه «كان واحداً من أفضل الفتيان في نيويورك». وقال إنه كان مريضا بالقلق حتى كره موقعه في الحياة، والذي يعزى إلى الرغبة في معرفة كيفية التوقف عن القلق. هدف الكتاب هو قيادة القراء إلى حياة أكثر إمتاعًا وإشباعًا، مما يساعدهم على أن يصبحوا أكثر وعيًا، ليس فقط بأنفسهم، بل بالآخرين من حولهم. يحاول كارنيجي معالجة الفروق الدقيقة في الحياة اليومية، من أجل جعل القارئ يركز على جوانب الحياة الأكثر أهمية.
«ديل كارنيجي» الذي اعتبر نفسه في شبابه أنه «الأتعس»؛ حيث كان يعاني من الفقر ويشعر بالإحباط، ويفكر في الانتحار مرات عديدة، لكنه أصبح الرجل الذي يتوافد اليه كبار رجال أعمال نيويورك وأشهر شخصيات أمريكا لطلب توجيهاته ونصائحه العملية فيما يتعلق بالتعامل مع الناس.
نشأ وعوامل الفشل تحيطه من كل جانب؛ فقد نشأ لأبوين فقيرين في قرية نائية تقع في ولاية «ميسورى»، وكان من نتائج الفقر شعوره بالنقص، كان خجولا من فقره من ملابسه الرثة، من عقدته في الطفولة وهي «الخجل».
وكان مشهورا بالتفوق الدراسي ولم يشترك في الأنشطة الرياضية بسبب بنيانه الهزيل ولكن وجد ضالته في فريق المناظرات ونبغ فيه بين أقرانه وكان متميزا بالخطابة والنبرة القوية وجمال الأسلوب، وأصبح مؤلفا بعد نزوحه الى نيويورك ومطورا للعلوم الخاصة بالعلاقات الإنسانية وأنشأ معهداً باسمه.
منذ وفاته عام 1955 مازال الناس حول العالم يتبادلون نصائحه في مختلف المجالات سواء لجهة فهم الآخرين أو التسامح معهم أو مراعاة حالتهم النفسية حين تتحدث معهم .
لكن الواقع مختلف عن الحقيقة . وهو نفسه لم يكن يطبق دائماً نظرياته التي بها ينصح الآخرين .كان يغضب ويتوتر. قالت له زوجته ذات مرة: أريد منك أن تعيد لي ال 76 دولاراً التي دفعتها لك حين كنت أدرس في معهدك .فأنت لا تطبق أفكارك على نفسك . فرغم كل كتبه ونظرياته التفاؤلية انتشرت اشاعات عقب وفاة كارنيجي العام 1955 أنه مات..منتحراً !.
ليس بالضرورة أن يكون المظهر مطابقاً للداخل. وكم من المشاهير في العالم ماتوا انتحاراً: ارنيست همنغواي كاتب «العجوز و البحر» الحائز على جائزة نوبل ، فان جوخ الفنان الهولندي الذي تباع لوحاته في مزادات لندن ونيويورك بملايين الدولارات ، مارلين مونرو التي اذهلت العالم في الستينيات وفرجينيا وولف التي اعتدى عليها جنسياً أخوها غير الشقيق في صغرها وكتمت الأمر لتتوالى عليها الخيبات وتنتحر غرقاً .
نعود الى الحكم القائلة: لا تصدق كل ما تسمع أو تقرأ . ليس كل ما يلمع ذهباً ومن الصخر يولد الألماس .
الدستور