هؤلاء «الاعتذاريون» مجرد سياح
يمكن أن تذهب إلى «قمامة» التاريخ -كما كان يقول المرحوم محمد الغزالي - فتجد آلاف القصص والمرويات المغشوشة التي تحفل بها كتب السير والتراث،، ثم تستطيع -ان اردت- ان تسوّقّها على انها تمثل جزءا من الاسلام ، او ربما الاسلام كله ، حينئذ انت واحد من اثنين : اما ان تكون انطلت عليك «الاكاذيب» فصدقتها، واما ان يكون الواقع قد التبس عليك فلم تجد امامك الا ان تفزع لمثل هذه الروايات لكي تقنع نفسك ان ما يحدث اليوم هو نسخة لما حدث بالامس( لاحظ انني لم اتطرق للخبثاء الذين استغلوا ذلك لدس سمومهم بيننا) ، وفي كلتا الحالتين فانت لا تختلف عن آخرين انشغلوا «بتزييف» التاريخ والواقع بهدف تشويه الاسلام.
تجربتنا التاريخية ، مثل غيرنا من الامم، فيها صورتان : احداهما مشرقة افرزتها حركة المجتمع حين اقترب من الدين وتحرر من الظلم والاستبداد والخوف، والاخرى رمادية عكستها مراحل تراوحت بين استحواذ السلطة على امور الناس وبين مواجهة الآخر الذي استهدف بنيان الامة، اما التطرف فهو فعل انتسب منذ بداية الخلق للانسان لا الاديان ( قصة قابيل وهابيل)، تمدد بفعل الصراع على السياسة والحكم وليس على تخوم الاختلاف الفكري والفقهي والمذهبي، واذا كان الخوارج عنوانا لهذا التطرف فان ما فعلوه يحسب على تجربة الصراع من اجل السلطة لا على تجربة الصراع على الدين.
حين تسمع بعض الذين يتحدثون عن الاسلام، من ابنائه، وكأنهم اكتشفوه للتو، تشعر بالخيبة، فهؤلاء «الاعتذاريون» لا يرون في دينهم اكثر مما يراه السائح الذي يقف مطولا امام متحف مليء بالجماجم والجثث، اوامام آثار ومناظر مرعبة تشده اليها، فيندهش ويفزع لوقت ما، ثم سرعان ما يهم بالتقاط صورة تذكارية، ويقنع نفسه انه اكتشف الحقيقة، حقيقة «المأساة التي كان يتخيله وهو يبحث عن سر تخلف الابناء والاحفاد الذين ينسبون لهذا «التراث» المزدحم بالكوارث.
وكم من المسلمين اليوم، من يتصور ان اكبر خدمة يمكن ان يقدمها للاسلام هي الاشارة عن بعد او قرب الى ما في تاريخه من لوحات مفزعة ، او مواقع تستحق سياحة «المغامرة» ، او مواقف مثيرة تستدعي استغلال بشاعة الصورة المزورة التي التقطها بعين واحدة او ربما بالتخيل، فيما لا يفكر -البتّة- في تغيير حياته لتتناسب مع الاسلام، او تقديم نفسه كنموذج لهذا الدين الذي يمتلئ بالصور المشرقة، او اعتماده خريطة للطريق الذي يسير عليه.. او وسيلة للهدف الذي يريده، دون ان يلتفت للنقاط السوداء التي جرى المبالغة فيها واستدعاؤها عند الحاجة او توظيفها عند الطلب، مع انه لا تخلو منها حضارة ، اية حضارة.
صحيح ان امتنا لم تسلم- على امتداد تاريخها - من صراعات الفرق واصحابها ، ومن شقاقات المذاهب واتباعها، ومن دعاوى التكفير والاخراج من الملة التي استخدمها الشيوخ والسلاطين لحماية سلطاتهم غير المشروعة ، ومن صور الصراع والقتل ، لكننا لم نعدم في زحام هذه النوازل التي اطبقت على لوزتي الامة من ضحّى من اجل لم الشمل، وجاهد دفاعا عن الوحدة ، ومن قضى عمره في الدعوة للتقريب بين الاتباع ، ومن بنى حضارة استفادت منها البشرية كلها.
الدستور