ضم الأغوار والخطوة المقبلة
الخطة التي أشهر بنودها ترامب شحنت أطماع الإسرائيليين التوسعية وأحبطت العرب وأشعلت مخاوف الأردنيين وحركت الركود الذي عانت منه القضية ودفعت بها إلى أعلى درجات سلّم الاهتمام العالمي.
تجدد الاهتمام العالمي فرصة للفلسطينيين والعرب وللدولة الأردنية أن تحدّثَ خطابها وتوسّع قاعدة الجهات والمؤسسات والمنابر التي تخاطبها، فالشرح والاستجداء وبيان تعديات الخصوم لا تكفي، ومن غير المعقول أن نستمر في مراقبة الكيان الصهيوني ينفذ إستراتيجياته التوسعية دون مقاومة أو اعتراض أو رفع كلفة الاحتلال.
في أروقة الأامم المتحدة ومجلس الأمن وكما في روسيا والاتحاد الأوروبي والبرلمان البريطاني وتركيا ومعظم دول العالم الإسلامي وحتى في إسرائيل ظهرت مواقف متباينة من الخطة تتساءل عن توقيتها ومنطلقاتها وشرعيتها ودوافعها ونزاهة القائمين عليها ومدى الأحقية التي تملكها الولايات المتحدة وإدارتها في إعادة صياغة وفرض شروط أحادية على شعب أمضى عقودا من النضال والمعاناة.
لا أحد يستطيع إنكار تميز الموقف الأردني عن أقرانه العرب؛ فقد أعلن الأردن مبكرا موقفه الرافض لضم القدس ونقل السفارة الأميركية لها واعتبارها عاصمة أبدية لدولتهم، كما أعلنت الخارجية الأردنية رفضها لمحاولات محاصرة الأونروا ووقف الدعم المالي لها تمهيدا لإلغاء صفة اللجوء عن الفلسطينيين وتجاهل الحق في العودة وإلزام البلدان المضيفة بتوطينهم. ولم يستسلم الأردن إلى محاولات اليمين الإسرائيلي بالتملص من الالتزامات التي نصت عليها المعاهدة الأردنية الإسرائيلية بخصوص وصاية المملكة على المقدسات والتلويح بإمكانية تغيير الصيغة بالسماح لليهود بالدخول إلى الحرم القدسي وتقاسم أوقات الدخول والعبادة مع المسلمين والتضييق على المصليين تمهيدا لتغيير الترتيبات الجديدة وخفض التوقعات العربية كمقدمة لقبول ما سيقومون به لاحقا.
حتى اليوم بقي الأردن واضحا في التصدي للإجراءات الإسرائيلية مستخدما العقلانية السياسية والمكانة الأخلاقية التي يتمتع بها، ومشيرا إلى سجله في خدمة ميثاق الأمم المتحدة ومكافحة الإرهاب واحترام الشرعية الدولية ومذكرا قيادات العالم والمنظمات الدولية بالمخاطر التي قد تتولد عن استمرار الأوضاع أو التغاضي عن الإجراءات الأحادية التي تقوم بها إسرائيل لتغيير الواقع على الأرض. الوضوح والحكمة الأردنية التي يعرفها العالم ويقدرها الجميع في الخارج تحتاج إلى قاعدة صلبة وخطاب واضح ومحدد يمكن أن يفهمه الجميع ويدركوا منطلقاته وأهدافه ومبرراته.
مشاعر الاستنكار والتأييد والخطب الرنانة لا تكفي. منذ أسابيع وقبيل الإعلان عن بنود صفقة القرن عقدت المراكز البحثية والمنتديات ورشات واجتماعات مغلقة ومفتوحة لمناقشة الموقف الأردني والسيناريوهات المحتملة وعلى نفس النهج تطوع بعض السياسيين والعديد من العاملين في الشأن العام لتنظيم ندوات ولقاءات وإلقاء محاضرات وكتابة مقالات تعيد استهلاك الخطاب الستاتيكي التقليدي متجنبين البحث العميق فيما تهدف له إسرائيل والآثار الحقيقية والمستقبلية لما تقوم به اليوم على مستقبل الدولة والنظام والأرض الأردنية.
حتى اليوم لم أسمع أحدا يتحدث عن خطورة إصرار إسرائيل على الاستيلاء على غور الأردن وربط هذه الخطوة بالمخطط التوسعي الإسرائيلي الذي ينظر للأردن كهدف يمكن الانقضاض عليه سواء لحل أزمة السكان مرحليا أو لبناء إسرائيل العظمى لاحقا. في السيناريوهات التي انحصرت في مراجعة فك الارتباط والقبول بما يقبل به الفلسطينيون تجاهل للقضايا الكبرى من قبل الساسة المنشغلين بإحصاء أعداد المصفقين والمتربصين للقضايا التي ينبغي أن تكون الدافع والمحرك للإصلاحات التي تمتن الجبهة الداخلية من أجل تعزيز الشعور الوطني وحل المشكلات وتصحيح النهج والتنبه لمصادر التهديد المرتبطة بالطاقة والمياه والحدود وغيرها.
في الأردن لا يزال الشارع يتساءل بأصوات خافتة ومسموعة عن جدوى الحديث عن حرية القرار الأردني في الوقت الذي نتلقى فيه دعما سنويا أميركيا يزيد على 15 % من الإنفاق السنوي، وفي ضوء حالة الاعتماد الجزئي التي أوجدتها اتفاقية استيراد الغاز الإسرائيلي واستمرار الاعتماد على المياه التي تضخ إلينا من مصادر إسرائيلية. وماذا لو قرر الإسرائيليون وقف تزويد الأردن في أي وقت يختارونه.
ما لم ننتبه إلى التشابك في العلاقات وأهمية بناء وتطوير الموارد الذاتية ووقف الاعتماد على من تتعارض أهدافهم الإستراتيجية معنا، فإن الأردن لن يحقق أيا من الأهداف التي نرددها ونعيدها في كل مناسبة. فالأهداف الكبرى تحتاج إلى رؤى وقرارات حاسمة تتجاوز حالة التباين التي نعيشها.
الغد