مقطع من حياة الراحل الملك الحسين
في ظلال ذكرى رحيل الملك الباني الحسين بن طلال رحمه الله ينبغي التذكير أن حياته لم تكن عادية، بل كان في قلب كل أعاصير المنطقة، فالفتى الصغير كاد أن يستشهد مع جده على أبواب القدس، وكان الحسين طيلة حكمه رجل حكمة وصبر يعرف رجاله ويسومهم كل حسب قدره، وذات صباح كما يروي في سيرته التي نشرت مؤخراً عن دائرة التوثيق في الديوان الملكي، وحيث كان يقضي الإجازة الصيفية في جنيف مع والدته واخوته: «وفي صباح اليوم الثاني عشر من شهر آب عام 1952، ذهبت والدتي وأشقائي لشراء بعض الحاجيات، وبقيت أمتّع نظري برؤية أسراب البط وهي تعوم في البحيرة، وبعد برهةٍ قرع الباب، ودخل واحد من نُدل الفندق، وهو يحمل صينية فضية فوقها رسالة. ولم تكن بحاجة إلى فتح غلافها، كي أعلم أن أيام دراستي قد انتهت، فقد كان العنوان (جلالة الملك حسين) كافياً.. وفضضت الغلاف، وأنا أتنهّد، وكانت الرسالة من رئيس الوزراء، وفيها يُعبر عن أسفه لتنازل والدي عن العرش، ثم ينبئني أني أصبحت ملك الأردن..» (ص 15)
لم تكن مسألة تولي العرش سهلة، لا لسبب داخلي؛ بل لأن الملك الجديد ما زال شاباً فتياً، ولأن الأردن كان محاطاً باقطاب عربية، تريد منه أن يكون تابعاً لها ويدور في فلكها، فسوريا ومصر عبدالناصر، لهما طموح كبير، والعراق طامع بهيمنته على جناح العائلة في الأردن، وصوت عبدالناصر يملأ المنطقة، والشيوعيون في الأردن قبلتهم سوريا ويقابلون السفير الروسي.
وفيما القلاقل كانت مُقبلة على البلاد صيف 1957، يخبرنا الحسين بقصة طريفة:»وبينما كنتُ وحيداً في تلك الليلة، وفدَ ضابط من بيروت ملتمساً مقابلتي، وأخبرني هذا الضابط أنه شاهد عدداً من ضباطنا ينفقون الأموال بسخاء في ملاهي بيوت ودمشق، أموال أكثر بكثير مما يَدر عملهم.. وأخذنا نتتبع بعض كبار ضباطنا وساستنا وهم ينفقون المبالغ الطائلة خارج البلاد».
ويزيد على ذلك بالقول:»وبما أن أفراداً معينين من رجالات حكومتي باعوا أنفسهم لدمشق أو لعملاء السوفييت في سورية، فقد كان هدفهم الرئيسي أن ينشئ الأردن علاقاتٍ دبلوماسيةً مع الصين الحمراء» (ص 41). ولاحقاً أطلت أزمة حلف بغداد 1955 واجهها الملك الشاب بحذر ورويّة، فيقول: «وزرت القاهرة وسألنا عبد الناصر عن موقفه.. فأجابني بقوله إن التسرّع البالغ الذي تألف به الحلف ليضم دولة عربية واحدة .. ومع أن عبد الناصر كان في منتهى الأدب معي، غير أن ذلك لم يحل دون تهجم راديو القاهرة عليّ، فسألت عبد الناصر مستغرباً إصراره على الحملة الإذاعية ضد الأردن، فارتسمت على ثغره ابتسامةٌ خلابة، وأجابني قائلاً: هذه هي المرة الأولى التي أسمع بها الأمر. (ص 23 – 24)
بعد سعي عبدالناصر للتسلح من الروس، يؤكد الملك حسين أنه وقع بالإعجاب بالرئيس المصري قائلاً: «كان هذا شأن الكثيرين، وفيهم أنا نفسي فقد خيل لنا لأول وهلة أن تلك الصفقة هي أفضل ضمان لنا في المستقبل ضد إسرائيل .. وكل ما كنا نراه إذ ذاك هو أن عبد الناصر هو أول سياسي عربي أزاح فعلاً أغلال الغرب، وعلي أن أعترف الآن أنني تحمّست لوجهة النظر تلك إلى حدّ بعيد.
الدستور