تسود اليوم فكرة رئيسية – ما زال يشوبها الكثير من الضبابية والغموض- أن العالم بعد جائحة كورونا لن يعود إلى ما كان عليه قبلها.
قد تكون هذه الآراء مطعمة بالرغائبية كما هو حال الأطروحة التي تتوقع نهاية قيادة الولايات المتحدة للعالم. لكن هذا الرأي لا يتحدث به الأعداء الأيديولوجيون للولايات المتحدة بل يتردد في الأوساط الأميركية الفكرية والبحثية نفسها هذه الأيام، ويتم النظر إليه كاحتمال قائم إذا تكرس فشل الولايات المتحدة في قيادة المواجهة مع الوباء محليا وعالميا. ويستدعي مقال تحت عنوان “فيروس كورونا قد يعيد تحديد النظام العالمي” – مجلة ” فورين أفيرز 18 / 3 / 2020- مقارنة اللحظة التاريخية الراهنة مع تلك التي شهدت العدوان الثلاثي الفاشل على السويس عام 1956 وكانت بمثابة إعلان تغيير في النظام الدولي حيث خسرت بريطانيا مكانتها الدولية نهائيا لصالح الولايات المتحدة وتكرس النظام الدولي ثنائي القطبية، وكانت لحظة فارقة – كاشفة لحقيقة كانت قيد التشكل خلال الفترة السابقة. ويقول المقال “تختبر جائحة كورونا عناصر القيادة الأميركية، وحتى الآن تفشل واشنطن في الاختبار. وبينما تتعثر واشنطن تتحرك بكين بسرعة واقتدار لملء الفراغ ووضع نفسها كقائد عالمي في مواجهة الوباء”.
قد يكون التغيير تدريجيا وتراكميا ويبدأ من ملاحظة دروس التجربة – الصدمة في كل عمل وفي كل مناحي الحياة. إن اقتصاديات جميع الدول ستضرر بشدة وتوقعات النمو لهذا العام ستشهد انخفاظا دراماتيكيا وستنهار الكثير من الأعمال في كثير من القطاعات وسيفقد كثيرون وظائفهم، ويمكن افتراض أن كل ذلك سيكون مؤقتا قبل استئناف النمو لمستوياته المأمولة لكن من قال إن الناس تريد أصلا العودة إلى هذا اللهاث وراء النمو، أو هذا النوع من النمو على الأقل الذي لم يحم الحياة ولا الوظائف والدخول ولم يؤهل البنى الصحية لمواجهة الوباء وحافزه الوحيد الربح وهو هش قابل للانهيار أمام أي أحداث طارئة. إن عوامل عديدة مثل التقدم التكنولوجي والمعلوماتية والذكاء الاصطناعي والهندسة الجينية تدفع إلى تجاوز النمط التقليدي للاقتصاد الرأسمالي عبر مسار يمتد لعقود قادمة لكن كورونا كما يبدو ستختصر الأزمنة وتسرع التحول في نمط الحياة والعمل والانتاج والعلاقات والثقافة والمفاهيم.
مع ذلك يرى البعض أن الحياة ستعود لسابق عهدها كما كانت تماما، ويستشهدون بالتجربة مع الأزمة الاقتصادية والمالية الكبرى عام 2008 والتي تم تجاوزها واستمر الأفراد والنظام الاقتصادي كله يعمل بنفس الطريقة ولو مع بعض التشدد في التزام المعايير في المؤسسات المالية. لكن الأمر هذه المرة لا يتعلق بالتباطؤ والأزمة الاقتصادية، بل بالحياة نفسها. إن كثيرا من الاستنتاجات فيما يتعلق بالإنتاج والاستهلاك والرفاهية والصحة والعائلة والعمل والقيم السائدة ستوضع على طاولة النقاش وسيكون لذلك عواقب وتحولات في الثقافة العامة والنظام السياسي والشركات. وانظروا في المعلومة المبهرة التي نقلها الرصد البيئي للأقمار الصناعية أن الأدخنة السامة اختفت فوق بكين والمدن الأوروبية ولأول مرّة بعد عقود عاد الجو نظيفا والسماء زرقاء والنجوم تلمع. من يريد العودة عن ذلك؟!
الناس خلال الفترة الماضية رأت وتعلمت أن الكثير من الأمور يمكن الاستغناء عنها والكثير من الأعمال يمكن أداؤها بطريقة مختلفة ومختصرة. يمكن استخدام وسائل التواصل الإلكتروني للعمل والمعاملات والتعليم أو لنسبة أكبر كثيرا منها. يمكن اختصار نصف حركة السيارات وأنا شخصيا بعد كل هذا الهدوء الجميل في شارعنا أسفل البيت لا أتخيل عودة الضجيج الرهيب والنهر الهادر من السيارات على مدار الساعة. في كل مكان يمكن اختصار حركة النقل والآلات ووسائل الإنتاج وتعويضها بما توفره أدوات التقدم العلمي والتقني غير المستهلكة للطاقة والبيئة والجهد والوقت الذي يمكن ادخاره لأمور أخرى في الحياة ننتبه لها بعد فوات الأوان.
العالم لن يعود إلى ما كان عليه
تم نشره السبت 04 نيسان / أبريل 2020 12:48 صباحاً
جميل النمري
الغد