في الحجر المنزلي (11)..!
وُدّ جديد؟
كنتُ أتسلى بتقليم الأشجار على الرصيف أمام المنزل خلال فك الحظر النهاري، ولاحظتُ شيئاً. كان المارة ودودين بشكل خاص. في العادة، لا يُبادرك الناس في حيّنا بالحديث – حتى لو كانوا ودودين في دواخلهم- بلا سابق معرفة، ونادراً ما يعرف الجيران بعضهم البعض. وفي أحسن الأحوال، قد يلقي أحد سلاماً سريعاً. لكن المارة هذه المرة سلّموا وأضافوا عبارات صغيرة. مثلاً، علق أحدهم بأن المقص الذي أستخدمه يحتاج إلى شحذ و”تزبيط”. وقال مصري لا أعرفه: “إيه الجمال ده، الله ينوَّر”. وقال فتى لا أعرفه: “الله يعطيك العافية يا جار، يسلّم إيديك”.
ذكرني ذلك بما كتبه شخص أميركي عن أول شيء سيفعله بعد فك الحظر: “أعرف بالضبط ما الذي سأفعله أولاً. سوف أخرج إلى الهواء الجديد الذي أصبح بكراً للتو، وسوف أجد غريبًا مثاليًا، وأسير إليه بابتسامة كبيرة وأسأله: “لديك فكرة في أي يوم نحن”؟ والفكرة أن الحظر ذكّر الناس بأهمية الناس والأماكن والأشياء المفتقدة. ويُخمن متفائلون أن يكون الحظر فرصة للتأمل في الحياة والعلاقات، والتي ستجعل الناس أكثر تعاطفاً وتقديراً لأهمية الآخر.
ولكن، إذا تحققت التوقعات الأخرى القاتمة، وعانى الناس اقتصادياً بعد الوباء، هل سيدوم الود وتزدهر العاطفة الجديدة؟ في العادة، يكون العوز الاقتصادي علة العلل، من العصبية والمشاكل الزوجية و”هروب الحب من الشبّاك”، إلى العنف الاجتماعي، إلى الثورات والاضطرابات، والتطرف العنيف. ولن يذهب بعد الوباء ذلك الصراع الأزلي بين نوازع الخير والشر: بين تبرير التعاون كوسيلة للدفاع المشترك عن الذات والمجموع؛ والمنافسة كطريقة للحفاظ على الذات حين تشح الموارد. وهكذا، قد يعود التجهم وينطفئ الحنين. وقد يفعل العابرون ما فعلوه عندما كنتُ أقلم نفس الأشجار في السنة السالفة، يلقون نظرة فضولية صغيرة، ويمضون، غالباً بلا تحية.
- * *
أقنعة الوجه هنا لتبقى؟
جعل الوباء ارتداء أقنعة الوجوه جزءاً من الحياة اليومية وشرطاً لمزاولتها – تحت طائلة العقاب أحياناً. وقد انتبه جماعة صناعة الملابس، فأصبح بعضهم يصنعون “كمامة” من نفس قماشة السترة أو القميص، أو متماشية معها، مثل منديل جيب البدلة. ورسم فنّانون على الأقنعة لوحات صغيرة. وكتب بعض الناشطين عليها شعارات أو رموزاً لحركة أو منظمة. ودخلت “الكمامات” في أشكال التعبير الوطني، هناك مثلاً “كمامات” برسوم الكوفية الفلسطينية، أو عليها أرزة العلم الوطني اللبناني.. وهكذا.
حسب تعليمات الحكومات، سوف يُعاقب الذي بلا قناع: لن يُسمح له بدخول مركز التسوق من دونه، وسوف تُغلق المنشأة التي لا يرتدي عاملوها “كمامات”. وربما ينظر الآخرون إليه بشك ويتجنبونه. وحتى من غير مراقبة أمنية، سوف يتقنّع الناس لحماية سلامتهم الشخصية.
اقترح كاتب أن عدم المصافحة سيحرم الناس من وسيلة للاستعلام عن الآخر، لأن سلوك قبضة اليد في المصافحة يقول شيئاً عن شخصية صاحبها وعاطفته. وبالأقنعة على الوجه، سوف تذهب مفردات أخرى من لغة الجسد. لن تعرف إذا كان الآخر خلف القناع يبتسم لك، أم يسخر منك، أم يعبس أم يلوي شفتيه. وسوف يتركز الاستيضاح على العينين فقط. سوف تزيد العناية بالعيون بسبب وظيفتها الجديدة – سواء في المظهر، أو التمرين على التعبير بها – وقراءة لغتها أيضاً. - * *
الشرّ لا ينام
وسط هجمة الوباء القاتل، يسير عمل الشيطان كالمعتاد حيث اعتاد أن يكون مستشاراً مرحباً به. لن يحبس الشيطانَ الهوائي أي حظر، ولن يُقعِده “كورونا” ولا غيره.
في الكيان الصهيوني وأميركا، لا يغفلون عن مواصلة استهداف الفلسطينيين وعدم إعطائهم فرصة للتنفس، وتمضي ترتيبات ضم أجزاء من الضفة الغربية المحتلة أصلاً. ويعلن الأميركيون مباركتهم لهذا الفصل الجديد من العمل الشرير الطويل وترتب سلطة الاحتلال للتنفيذ.
تزدهر أعمال النهب عادة مع الكوارث؛ الفوضى تصرف انتباه المنشغلين بحفظ بقائهم، في الداخل والخارج. وفي الحقيقة، لم يكن الأميركان والصهاينة يحتاجون إلى السرقة في غفلة من انتباه الآخرين. لكن فوضى “النظام” العالمي وصخب الوباء قد يجنبانهم بعض الصداع من صوت احتجاج لن يُسمع الآن.
لم يتوقع الفلسطينيون أن يجلب لهم “كورونا” أي رحمة. وسيراهنون أيضاً، في ظرف ليس جديداً عليهم كُلية، على نهايات مختلفة، ولو طال الزمن.