“الحشد حول العلَم” كعاديّ جديد..!
أطاح وباء الطاعون «الموت الأسود» بالكثير من الأنظمة، وغير العالَم كثيرا. لكن وباء «كوفيد 19» بدا وكأنه يزيد من شعبية الحكومات ومنسوب الرضا عن القادة في أماكن كثيرة. وفي أيار (مايو)، وجد استطلاع أجرته شركة «مورنينغ كونسلت» أن «مجموعة من عشرة قادة شهدت ارتفاعا في نسب الدعم بمعدل تسع نقاط مئوية منذ أن أعلنت منظمة الصحة العالمية تفشي الوباء في 11 آذار (مارس)».
نجمت هذه الاتجاهات غالبا عن تطلُّع المواطنين إلى قادتهم وحكوماتهم لحمايتهم من الوباء وتداعياته. ولاحظ مراقبون أن الفاعلين من غير الدول لا يستطيعون مواجهة تهديد بهذا الحجم والنطاق، ولذلك برزت ضرورة الدول، بمؤسساتها وسلطاتها واتصالاتها وقدرتها على التنسيق والدعم، في مواجهة الكوارث الوطنية. وبالإضافة إلى استخدام أدوات الدول لوضع الخطط وفرض الإغلاقات وتتبع الحالات، حاولت الكثير منها التخفيف من الألم الاقتصادي الناجم عن الجائحة ببرامج إنقاذ ودعم للقطاعات والفئات الضعيفة من مواطنيها.
يُطلق على هذه الاتجاهات، حيث يتوحد المواطنون ومؤسسات الدولة في مواجهة الأزمات، وصف «الحشد/ التجمع حول العلَم». ويعني ذلك تحييد الخلافات والتكوينات الصغيرة والفرعية، والتراصف في جبهة واحدة حول الرمز الوطني، حيث لا تنفع الخنادق الفردية أو الاشتباك وتبادل القصف محليا في مواجهة الأزمة.
وقد شهدنا هذا «الحشد حول العلم» في الأردن في مواجهة «كوفيد 19»، كما كنا قد شاهدناه في مناسبات سابقة عندما بدا أن خطرا يتهدد الوطن كله. وربما كانت خبرة الوباء مناسبة نادرة جعلت معظم المواطنين يعرفون أسماء وزراء ومسؤولين ويميزون صورهم ويرغبون في الاستماع إليهم والتحدث معهم. وفي الحقيقة، يمكن أن يكون هذا –بغض النظر عن رداءة السبب- فرصة أيضا إذا ما عومل كتجربة للتعلُّم والبناء، وليس كمظهر عارض يذهب بذهاب الظرف –أو تصبح الأمور بعده أسوأ مما كانت قبله.
بعض المسائل أسهل من غيرها لأنها في المتناول، ولوازمها إرادة وأدوات غير مكلفة. على سبيل المثال، التواصل بين الدولة والمواطنين والتعارف بين الناس ومسؤوليهم ومعرفة يفعلون، وعناية المسؤول بمعرفة حاجات الناس والتفكير بجدية في كيفية نجدتهم سريعا وعمليا. ولا يلزم لهذا أكثر من الرغبة الحقيقية أولا، ثم الشفافية، والتشاور وإنشاء مسارات للتواصل في الاتجاهين والعمل مباشرة على التغذية الراجعة. وينبغي أن يكون هذا سهلا وعاديا، لا أن ينشأ كمتعلق بوضع طارئ ويعامل وكأنه عبء.
ينبغي أن يعرف المسؤولون من هذه التجربة أن أي خطط لا تشرك الناس، ولا يقتنعون بالمشاركة فيها، يغلب ألا تنجح. ثمة شيء هو «الجهد الوطني»، عندما تعمل الدولة بكل مكوناتها –خاصة المواطنين لأنهم الدولة- لمواجهة أزمة والتغلب عليها. وكان الوباء فرصة لإيقاظ شعور المسؤول بأنه يعمل مع المواطنين ومن أجلهم، وكيف هو مذاق النجاح ومتعة بالرضا بالتحديد عندما يخدمهم ويؤمّنهم –بل إن مسؤولين أصبحوا نجوما محبوبين، فيما لم يتسنَّ للسابقين وحبذا لو يصبح طبع اللاحقين.
شاهدنا أيضا كيف نشأت صناعات في أيام، وكيف وُضعت برامج لمساعدة المتضررين وغوثهم بما أمكن، وكيف توجه الانتباه إلى أزمات القطاعات ورُسمت خطط لإنقاذها وتنشيطها وتحسين أدائها. ورأينا كيف تطورت خدمات الحكومة الإلكترونية والأتمتة وتسهيل المعاملات بسرعة لم يشهدها زمن الرخاء. وبشكل عام، نشأ لدينا نوع من الانتباه المتعاطف في الاتجاهين، بغض النظر عن الهنات والمنغصات هنا وهناك.
لم نكن قبل الوباء بلا أزمة. لكن تلك الظروف لم تُعامل بنفس القدر من الجديّة، كما تبيّن. وكأنَّ سيادة مناخات تهدِّد بعدم الاستقرار لم تكن حالة طوارئ تستوجب «الحشد حول العلم» بطرق شبيهة لما شهدناه مع الوباء. والآن، يغلب أن تجلب تداعيات الوباء ظروفا أصعب مع تضرُّر مفاصل الاقتصاد. وسيكون التحدي الحقيقي هو التعامل مع قضايا لا تحلها إجراءات مثل حظر التجول وعزل المباني والأفراد.
عندما ينقشع الغبار وتأتي لحظة الحقيقة، لن يعود الأداء بشأن احتواء التفشي هو المعيار لحساب الرضا العام وماهية المشاعر السائدة. وبالتأكيد، لن يكون تمرين استخدام السلطة لمنع التجول هو الخبرة التي ينبغي اختيارها لإسكات المطالبات الحتمية. ثمة الكثير غير ذلك، وينبغي أن تكون خبرة الحشد الحقيقي والدائم حول العلم، وعوامل تعبئة الجهد الوطني المتواصل، هي العادي الجديد.
الغد