مسجد أيا صوفيا.. دروس منسية!
كنت مترددًّا في الكتابة؛ فالموضوع يتخذ بعدا ثقافيا ودينيا قويًّا لدى اغلبية المسلمين والمسيحيين في العالم، ومناقشته ستثير جدالًا كبيرًا من الممكن أن يولد الكثير من سوء الفهم، فالحدث يحظى باهتمام ومتابعة واسعة، واجتاح كافة وسائل الاعلام والسوشال ميديا على مدى ايام بانتظار القرار المرتقب للمحكمة، تبعه مصادقة الرئيس التركي طيب رجب اردوغان على القرار.
القضية قديمة والمعركة على هوية أيا صوفيا اشتدت مع اقتراب جيوش ونفوذ الممالك الأوروبية من الدولة العثمانية في القرن التاسع عشر؛ اذ كانت عنوان هجمات الروس واليونانيين، وجعلت منها القوى الاوروبية عنوانًا للزحف على اسطنبول، كما فعلت روسيا في عهد "كاترينا" وكما فعل اليونانيون بداية القرن العشرين.
أيا صوفيا تتخذ طابعًا سياسيا وثقافيا أراد أتاتورك من خلالها تأكيد علمانية تركيا، والتخلص من إرث الدولة العثمانية، خصوصًا بعد استغاثة الشعوب المسلمة في القفقاس وبلاد الشام ووسط آسيا والمغرب بأتاتورك الفاتح الجديد الذي صد الهجمات الاوروبية، وعلى رأسها اليونان، وأعاد توحيد تركيا؛ فالحدث سياسي أعاد الامل للعرب والعجم لدور تركي أكده شوقي في قصيدته مناديًا أتاتورك: "يا خالد الترك جدد خالد العرب". عبء أراد اتاتورك التخلص منه، ورفض ان يحمله من جديد.
أتاتورك أراد تأكيد علمانية الدولة التركية، وأراد استرضاء الغرب وروسيا في ذات الوقت، متماهيًا مع المناخ الدولي، خصوصًا بعد استيلاء الحزب الشيوعي البلشفي على الحكم في روسيا، وتدميره المساجد والمعابد والكنائس في روسيا بحجة مخالفاتها لمبادئ الحزب اللادينية. إجراءٌ تراجعت عنه روسيا مباشرة بعد انهيار الاتحاد السوفييتي، فأعادت الكنائس والمعابد الى اصحابها دون كبير عناء.
أتاتورك اتخذ خطوة تحويل أيا صوفيا الى متحف، متماهيًا مع المناخ الدولي حينها دون مراعاة للحقائق القانونية والتاريخية؛ فالخطوة لم تكن قانونية حالها كحال ما فعله الحزب البلشفي الشيوعي، بل كانت نوعًا من انواع القمع والاستبداد حينها كحال، لتعود روسيا فيما بعد كوريث للاتحاد السوفييتي عن هذه الخطوة غير القانونية والانسانية بإعادة الكنائس إلى أصحابها بعد اكثر من 70 عامًا.
الفرق أن تركيا اتخذت مسارًا مختلفًا عن روسيا، مسارًا قانونيًّا طويلًا أثبتت بالوثائق التاريخية ملكية الاوقاف التركية لأيا صوفيا؛ إذ لم يتم الاستيلاء عليها بالقوة في فترة حكم محمد الفاتح، وإنما تملكها بعقد شراء بين السلطان محمد الفاتح ورهبان وأساقفة الكنيسة. وهو سلوك متحضر نجد له ما يشبهه في المانيا وهولندا وبريطانيا وارجاء اوروبا وامريكا، حيت يشتري المسلمون الكنائس والمعابد المهجورة بأموال المهاجرين والجالية الاسلامية هناك، ويحولونها لمساجد ومراكز ومدارس.
فإذن، ما حدث قبل 600 عام يتكرر كل عام في اوروبا وامريكا دون اعتراض من أحد، فلماذا هذه الضجة على استعادة الأتراك لمسجدهم!!
استعاد الاتراك بذات الطريقة السلمية والقانونية ما امتلكوه قبل 600 عام بعقد واتفاق، وليس بقوة السلاح، فما حاجة الفاتحين إلى دفع ثمن شيء امتلكوه أصلًا بالقوة، إنها المبادئ والقيم بالتأكيد والضوابط الشرعية والالتزام بالعهود التي لم تمتلكها "إيزبيلا" و"فرديناند" في غرناطة؛ وهو الامر الذي يتم إغفاله في قصة أيا صوفيا، فهي الدرس الحقيقي هنا الذي يتجاهله الجميع!
السبيل