منطق “السلام” و”الاستسلام” في هيروشيما وناغازاكي..!
تصادف اليوم ذكرى مرور 75عاماً على تفجير قنبلة ناغازاكي، التي ألقيت على المدينة اليابانية بعد ثلاثة أيام من قنبلة هيروشيما. وكان ذلك أول استخدام لأسلحة الدمار الشامل لإبادة المدنيين، الذي شكل لطخة عار لا يغسلها شيء على جبين الدولة التي استخمدتها.
الملفت في ذلك الحدث هو التبرير الذي ساقته المؤسسة الأميركية لاستخدام القنابل النووية ضد المدنيين. إذ كتب وزير الحرب الأميركي آنذاك، هنري ستيمسون: “كان الهدف السياسي والاجتماعي والعسكري الرئيس للولايات المتحدة في صيف العام 1945 هو الاستسلام الفوري والكامل لليابان. فالتدمير الكامل لقوتها العسكرية فقط يمكن أن يفتح الطريق أمام سلام دائم… لم يكن هناك أي مؤشر الى أي ضعف في تصميم اليابان على القتال بدلاً من قبول الاستسلام غير المشروط”.
بعيداً عن لاأخلاقية الحرب كلها كعمل قوامه القتل والتدمير، فإن الذين يصممونها يقومون دائماً بـ”عقلنتها” بعرض أي أعمال يقترفونها لكسبها على أنها خير خالص خالٍ من اللوم أو وجع الضمير. وكتب ستيمسون عن أسبابه لاستخدام القنبلتين أنها “بدت دائماً مقنعة وواضحة، ولا أستطيع أن أرى كيف يمكن لأي شخص يتولى مسؤوليات مثل مسؤولياتي أن يتخذ أي مسار آخر أو أن يعطي أي نصيحة أخرى لرؤسائه”.
وما السبب “الأخلاقي” و”العملي” لإبادة المدنيين اليابانيين؟ السلام، حسب ستيمسون، وحفظ حياة الملايين. كانت لديه تقديرات بأن استمرار الحرب، التي كان مخططوها واثقين من كسبها في النهاية بالحرب التقليدية، سيستغرق وقتاً، ويكلف خسائر كبيرة في صفوف الجيش الأميركي والياباني.
في هذه الحالة، من الواجب التضحية بالمدنيين كأكباش فداء، ولا يهمُّ أن يكون هؤلاء المدنيون سكان مدينتين كاملتين، تزالان تماماً عن وجه الأرض، لأن هذا هو الثمن الضروري لتحقيق “السلام”، الذي شرطه هو “استسلام” اليابان بلا شروط استجابة لإعلان بوتسدام. ولا يُسند ستيمسون أهمية خاصة للمدينتين من الناحية العسكرية: اللتين “كانت إحداهما مركزًا للجيش، والأخرى مركزاً بحرياً وصناعياً”. ولم يكن تدميرهما بشكل خاص هو الذي سيهزم الجيش الياباني، حيث كان الهدف هو كسر الإرادة: “القنبلة الذرية كانت أكثر من سلاح تدمير رهيب. كانت سلاحاً نفسياً”. لذلك لم يتم استهداف القواعد والمراكز العسكرية وحدها لأن ذلك لا يكفي لكسر إرادة القتال.
لم يتغير خلط “السلام” بـ”الاستسلام” أبداً في منطق الإمبراطورية، قبل هيروشيما وناغازاكي وبعدهما. قبل غزو العراق، قادت الولايات المتحدة حصاراً مطوّلاً عليه، من أجل “السلام” أيضاً، باعتبار أن العراق يملك أسلحة دمار شامل ويوؤي “القاعدة”، ويهدد السلم العالمي. وكان السبيل إلى السلام هو استسلام العراق وكسر إرادته، وبالذات بتعذيب المدنيين.
في العام 1998، قالت وزارة الصحة العراقية ان “ما لا يقل عن 1.5 مليون عراقي (أضعاف ضحايا هيروشيما وناغازاكي) ماتوا من الامراض وسوء التغذية منذ 1990 بسبب العقوبات، ونحو 70 في المائة منهم أطفال دون الخامسة. وقد ارتفعت نسبة الإصابة بالسرطان إلى درجة مخيفة، فانتشر سرطان الدم والغدد الليمفاوية بين العسكر بمقدار خمسة إلى ستة أمثال في الخمس سنوات الأخيرة، وتزيد النسبة بين المدنيين والأطفال”.
وبعد ذلك حصد احتلال العراق، وما تلاه من ضحايا الصراع الطائفي والتفجيرات والتنظيمات المتطرفة وانفجار الإقليم، أرواح أعداد إضافية لا تحصى من المدنيين، وما يزال. كل ذلك من أجل “السلام” أو “الاستسلام”. وما تزال الحصارات التي تستهدف المدنيين في صحتهم ومعاشهم وأرواحهم، وسيلة “سلمية” سائدة من أجل “السلام” بالمفهوم الأميركي، الذي يعني في النهاية الاستسلام من دون قيد أو شرط.
وفي حين يقارنون تفجير بيروت بهيروشيما وناغازاكي من حيث القدرة التفجيرية النسبية –ومصادفة التوقيت- فإن المدنيين اللبنانيين يدفعون بوضوح ثمن الحصار المفروض على بلدهم إلى أن تتحقق شروط يراها لبنانيون “استسلاماً” وتراها أميركا “سلاماً” للذي تحب أن يسلَم.
لكن أوضح مثال على منطق هيروشيما وناغازاكي هو الفلسطينيون. لقد واجه المدنيون الفلسطينيون على مدى عقود قصفاً متواصلاً من الإبادة الجماعية والتطهير العرقي والحصارات والحروب، بحصيلة نفسية ومادية لا تقارن بها قطعاً خسائر هيروشيما وناغازاكي. والهدف المعلَن هو “السلام” –الاستسلام بلا قيد أو شرط لإرادة العدو المحتل وكسر الإرادة الوطنية للمقاومة.
هيروشيما وناغازاكي هما الرمز فقط لممارسة مستمرة من كسر نفسيات وإرادات الشعوب بمئات الملايين في كل مكان وكل الوقت. وصاحب “القنبلة” الأوضح نفسه.
الغد