ما أصعب أن تكتب في الشأن العام ..!
الكتابة في الشأن العام مسألة «صعبة» ومرهقة، وتحتاج إلى رؤية واستبصار، كما تحتاج الى «فطنة» وحكمة، فليس كل ما يعرف يكتب ويقال ، ولا كل ما يكتب ويقال حان وقته وحضر أصحابه، كما ان وظيفة الكاتب ليس «الجهر بالسوء» وإنما توظيف الكلمة «الطيبة» لتغيير الواقع نحو الأفضل، والموازنة بين مَضَنّتي «الستر والإشهار» فإذا أحس بان «ظلما» وقع فالأولى أن يواجه على قدر استطاعته.
لم تصل حرية الإعلام في عالمنا العربي الكبير إلى الحد الذي يسمح للكاتب أن يعبر بصراحة عما يؤمن به من أفكار ، او ان يواجه بالانتقاد ما يراه من تجاوزات على صعيد السياسات العامة ، وهذه الحقيقة يدركها القارئ أيضا.. وربما تسعفه بتفهم أو قبول ما يكتب او ينشر حين لا يصل الى ما يتمناه من جرأة في معالجة الهم العام ، فهو هنا لا يعدم المبررات والاعتبارات التي تفرض عليه الكتابة ، وتمنع الكاتب من الدخول في صميم قضايا مجتمعه وما يحدث داخله من سجالات ومخاضات ومشكلات، فعند غياب «الحرية» لا مجال أبدا للإبداع، ومن حق الكاتب عندها على القارئ ان يحكم عليه وفق منسوب الحرية المتاحة، كما ان من واجب الكاتب ان يظل ملتزما بعهده مع القارئ وان لا يخضع لأي املاءات او إغراءات.
المهم هنا بالنسبة للكاتب أن يحافظ على رؤيته ويبقى مخلصا لأفكاره وقرّائه أيضا، وهو بالطبع لا يعدم طريقة ما للتسلل إلى جمهوره حتى في أصعب الظروف، وبالتالي فلا يجوز له أن يشعر بالإحباط، كما لا يحق له ان يلتمس العذر للاستقالة من الكتابة.
رضا الناس في الغالب بالنسبة للكاتب غاية لا تدرك، لكن رضا الضمير هو الأصل، وأعتقد أن القارئ ذكي بما يكفي للحكم على نزاهة الكتابة واستقامة الكاتب، والاستقامة هنا أدق واشمل من الشفافية والموضوعية فهي تجمع بين كل هذه القيم ضمن إطار أخلاقي يتسامى بالشخص الى ما وراء المجال الخاص ومصالحه وأهوائه المعروفة.
أخطر ما يتعرض له الكاتب هو (قابلية) الانحياز، أو الوقوع في فخ الإقصاء الذي يجعله يشيطن الآخر ، وأسوأ ما يمكن ان تقرأه هو الكتابة التي تحرّض او تبحث عن منافع خاصة او لا ترى إلا بعين واحدة ، ولا تقيم وزنا للتعددية والاختلاف، ومفهوم التعددية هنا لا يتعلق فقط بتباين وجهات النظر بل بمصداقية ما يكتب سواء كنت معه أو ضده.
في أكثر من نموذج عايشناه على مدى الأسابيع الماضية ، فرضت الاعتبارات التقليدية ذاتها على كل ما يمكن ان يقال او ينشر ، وأصبحنا أمام خطاب أحادي الجانب ، وهو خطاب مسكون بالخوف والارتباك وعدم القدرة على الإقناع او الوصول الى الناس ، ربما تكون الاعتبارات معروفة لمن يقرأ بوضوح ذبذبات السياسة العامة وخياراتها ، لكن هل كنا حقا نعدم مهارات وتقنيات وأشخاصا أكثر كفاءة وقدرة على إخراج الحدث؟ ربما ، فالإعلام كناقل وليس كصانع ، لا يتحمل مسؤولية الإخفاق بقدر ما تتحمله جهات أخرى، ومع ذلك لا يسلم الكاتب – والإعلام عموما – من اللوم والانتقاد والإحساس بالمرارة وتأنيب الضمير.
بالمناسبة، سبق لي أن أشرت إلى هذه الملاحظات في أكثر من مقال، لكنني أعيدها اليوم كي يطمئن القرّاء الأعزاء بأن الكاتب (وكذلك الإعلام في معظمه) لم يتنازل عن مهمته ودوره، ولم يستقل من واجبه الذي كلفه به المجتمع، فحتى وإن كتب الكاتب عن الصين فقلبه ينبض بالوطن.
الدستور