فرض المفهوم التنويري للإنسان بالقوة
فكرة الإنسان كما نعرفها اليوم، حديثة العهد، وهي منتج قرون من السجال التاريخي. مفهوم الإنسان كما تجلى عبر الحركة التنويرية التي استقرت ملامحها في القرن الثامن عشر، ليست وليدة ذاتها، بل هي منتج لتراكم ميراث قرون من التطور الفكري، والعلمي والتقني والاقتصادي. المفهوم المعاصر للإنسان، بأنه الكائن الذي يكتسب ميزاته سنداً لخصائص بيولوجية غير عرضية (مثل اللون والعرق والجنس)، بدأت ملامحها مع الدعوة المسيحية، وبالذات فيما يتعلق بإنسانية المرأة، مع التأكيد على إنسانية العبيد. وذلك في مواجهة الميراث اليوناني واليهودي، الذي ينتقص من إنسانية النساء والعبيد، ويحصر الكينونة الإنسانية في شرطين: «الحرية والذكورة».
الدعوة الإسلامية، تبنت مفهوماً قريبا للمضمون التنويري لفكرة الإنسان. فتم اعتبار المراة كائناً مكتمل الإنسانية.
كما نظر الإسلام للعبودية نظرة تحررية، فحرم استعباد المسلم، كما حض على تحرير العبيد، لكن العبودية كانت أساس لتشكل الفوائض الاقتصادية. فكان نمط الانتاج عائقاً يمنع اكتمال مشروع التنوير الإسلامي.
ثورة الزنج، في القرن الثالث الهجري، اعتمدت فكرة «تحرير العبيد»، ولكنها لم تستطع (كما هو حال ثورات العبيد في روما)، من تقديم نظام اقتصادي بديل، يتمكن من تحقيق الفوائض الاقتصادية دون عبودية. فرغم تمكنها من بناء مدينة المختارة، إلا أنها اعتراها الخلل والضعف، ولم تستطع أن تتمدد، وتكتسب استدامة دون فوائض اقتصادية. فسهل تدميرها بعد أقل من عشرين عاما على بدايتها.
الميزة التاريخية في التنوير الحديث، أنه عزز الموقف الدعوي الأخلاقي بشرعية استخدام القوة ضد المعيقات. وبعيداً عن التفسيرات الماركسية التي توحد بين التزامن والتكامل، واخضاع الدعوات الفكرية واختزالها بوظيفة اقتصادية، فإن ثورة وسائل الانتاج قدمت رافعة حاسمة لتفكيك المنظومة القديمة، وشرعية استخدام القوة لفرض قيم التنوير، بما فيها مفهوم الإنسان. ومع منتصف القرن التاسع عشر، بدأ منع العبودية، وحُرر العبيد بالقوة. ويمثل القرن العشرين، عصر تصفية العبودية، والإنحياز للتصور التنويري لمفهوم الإنسان، واستخدام كافة أشكال القوة لفرضه عالمياً.
ولكن هذه ليست حركة محمولة على الفكرة المثالية فقط. بل بدأت معززة بتطور تاريخي غير مسبوق لوسائل الانتاج. فكان نظام العبودية، من جهة يمثل عائقاً يمنع تقدم نظام الانتاج المبني على الخيارات الحرة للأفراد. فالنظرية الاقتصادية التي ترافقت مع التطورات التقنية، ربطت فرص نمو «ثروة الأمم»، بتعزيز الحريات الفردية. ومثل النظام الاقتصادي التقليدي، القائم على العبودية (بكافة أشكالها، بما فيها نظام القنانة)، عائقاً يمنع التقدم الاقتصادي الإنساني.
وبالرغم من الأصل الأوروبي لفكرة (ربط الحرية الفردية بالازدهار الاقتصادي)، إلا أن الولايات المتحدة، التي استقلت عن الاستعمار البريطاني، كانت اول من تبناها، ودخلت حربا أهلية لتصفية العبودية، كعائق يمنع تقدمها وازدهارها الاقتصادي. وقدم الترابط الضروري بين المضامين الاخلاقية للتنوير، مع التقدم التقني والازدهار الاقتصادي، المبررات الكافية لاستخدام القوة لإزالة العقبات، التي تعيق تمتع الإنسان بالحقوق التي تضمنتها المفاهيم التنويرية.
الدستور