المثقفون العرب وتحولات الواقع
عند الحديث عن تحولات الواقع العربي ولا سيما خلال العقدين الماضيين في تجارب المثقفين على الإطلاق، تبرز أمامنا عدة تساؤلات، منها: ما هي طبيعة هذه التحولات التي حدثت في الواقع العربي؟ وكيف أثّرت هذه التحولات على مختلف جوانب هذا الواقع الفكري، والثقافي، والاجتماعي، والسياسي، والاقتصادي ؟
لقد كان تغييب الأساس الثقافي المشترك عاملاً حاسماً في التفكك المرير الذي أدى بمحاولات النهوض في الواقع العربي إلى التراجع والنكوص، وبالتالي تفاقم التحديات والإشكالات على مختلف الصُّعد، والحدّ من إغناء الهوية والثقافة بالحيوية والتفاعل الخلاّق؛ ما انعكس سلباً على مجتمعاتنا بأشكالٍ من القصور التنمويّ، والجمود الاجتماعي، والتباعد السياسي، بل وتضارب القيم والمفاهيم على نحوٍ غير مُبرَّر ولا مفهوم، زاد في تعميق الفجوات، وإثارة الخلافات، والمزيد من الانعزالية والتقوقع على الذات .
إنَّ الإصلاحٍ الثقافيّ في الحياةِ العربية هو ضرورة لا بدّ منها لإعادة البناء النهضوي في كل المجالات، سواء منها الاقتصاد أو السياسة أو المجتمع وطريقة التفكير ... وإذا كانت دراسات كثيرة قد ركَّزت على تحليل الأسباب الاقتصادية والسياسية لتداعيات «الربيع العربي» في منطقتنا، فإنّ الأحرى بنا الالتفات إلى السياقات الثقافية التي جرت من خلالها هذه الأحداث، ودلالاتها على حقيقة الأزمة في المجتمعات العربية، وهي مؤشرات كانت تتفاقم على السطح، وتظهرُ عبر أشكالٍ متعددة من المعاناه في المشهد العربي العام، قبل تلك الأحداث بعقودٍ طويلة.
لقد استشعر المثقفون والمبدعون العرب على مدى المراحل ما يمكن أن يؤدي إليه كل ذلك من خلل في البنى الثقافية ومختلف أبعادها، وعبَّرت الكثير من الأعمال الفكرية والإبداعية العربية عن هواجس الناس والمثقفين على خلفية ما شهدوه من تحولات.
وتعدّ تجربة المثقف العربي المعاصر ثرية في المقياس الإنساني، ويمكن القول إنها تعبّر إضافة إلى الأعمال الإبداعية والفكرية التي ينتجها، عن مزيج من التجارب التي تعكس صوراً حيّة للبيئة المكانية، والمرحلة التاريخية، ولا سيّما ضمن التحولات في البعد المجتمعي العام، مما من شأنه أن يثري الثقافة ويساهم في تفعيل دورها بكل مكوناته، ليشكل دعامة للوعي وقاعدة لمواجهة التحديات.
ويظل المثقف والمبدع والكاتب العربي عموماً بتجاربه ورؤاه حاملاً لمشعل التقدم إلى الأمام، وصوت شعبه وضمير أمته الصادق نحو الحياة الحرة الكريمة والكرامة الإنسانية. ورغم أن هذا المثقف لا يحمل سلاحاً ولا يقود دبابة، إلا أن قدره بحكم مسؤولية الفكر والتعبير والرأي تجعله الأكثر إحساساً إنسانياً بالمعاناة وإدراك أسبابها ومواضعها، والبحث عن سُبُل فتح منافذ الإصلاح. كما أن التنمية الثقافية هي أساس التنمية الشاملة وبناء الإنسان، وفي ضوء ذلك يتبلور دور المثقف وأهميته.
وفي الإقتصاد عندما نتحدث عن «إدارة الندرة»، أي ندرة الموارد إزاء احتياجات البشرية، فإنه في إطار العولمة والانفتاح والثورة الصناعية الرابعة وإنترنت الأشياء، نحن بحاجة إلى «إدارة الوفرة» أيضاً، إذ لدينا الآن كمّ هائل من المعلومات عبر الشبكة العنكبوتية وعلى مواقع التواصل الإجتماعي، فيما قبل الثورة الصناعية الرابعة، كنا نقرأ رواية ما لعدم توافر بديل لها، وكنا نتابع نفس البرامج التلفازية المحدودة لعدم وجود بديل لها أيضاً، وهكذا.
أما اليوم، فإننا نمتلك الوسائل للوصول والحصول على كمّ هائل من المعلومات، رغم أنه يستحيل الاطّلاع عليه كاملاً، حيث لم يعد العالم قرية صغيرة بل أصبح العالم مختزلاً في هاتف ذكي صغير الحجم ومتعدد الاستخدامات ومصادر المعلومات التي يمكن الوصول إليها بسهولة من خلاله، بصرف النظر عن المستخدم ومستواه التعليمي أو الاجتماعي.
فهناك إنسان موجود في أفضل مكان من العالم من ناحية مستوى الحياة والرفاهية، وآخر موجود في أسوأ مكان من العالم نفسه من حيث المستوى المعيشي والمادي، لكن مع ذلك يتساوى الاثنان في الوصول إلى المعرفة.
إذاً، كيف ندير هذه الوفرة الهائلة؟ فنوجّه بذلك الإنسان والمواطن العربي إلى انتقاء ما هو مفيد، دون الاتجاه نحو ما يُفقِده هويته ويعزله عن مجتمعه، وخاصة دون التوجه نحو الأفكار التي تثير الريبة في بعض الجوانب وتؤثر على القيم.
وفي ظل ثورة الإنترنت والثورة الصناعية الرابعة وتكنولوجيا الأشياء والذكاء الإصطناعي كذلك، علينا أن نطرح الأسئلة المتعلقة بقدرتنا على الوصول إلى عقول الشباب وقلوبهم، فهل يستطيع المثقف والمبدع والكاتِب والصحفي تقليص الفجوة بين ما يقدّمه وبين الشباب في ظل هذا التطوّر التكنولوجي؟ يبدو أن غالبية الشباب يبحثون عمّا هو مفيد وسريع ومبَسّط، فلا رغبة لديهم في تمضية وقت طويل في قراءة ما بين السطور والتحليل. فهل نستطيع ردم هذه الفجوة والوصول إليهم؟ أم هل سنترك التحديات تزيد هذه الفجوة ونسمح لهذا الفراغ أن يملأه غيرنا بما قد يكون مفيداً أو حتى غير مفيد؟!.
إنّ ردم الفجوة بين الشباب من جهة والمثقفين من جهة أخرى أمر ضروري، فالمكوّن الشبابي يشكّل ما نسبته 70٪ من المكوّن المجتمعي في الوطن العربي، لذا يجب الأخذ بيد هؤلاء الشباب وتثقيفهم وتدريبهم ورعاية إبداعهم باستمرار، والعمل على بناء الولاء والانتماء لديهم على أُسس راسخة ليكونوا أركان بناء لمجتمعاتهم وليس معولاً في الهدم لا سمح الله .
وهنا يبرز دور الثقافة المالية والاقتصادية ودورها في بناء المجتمعات وتحقيق العدالة والمساواة في توزيع الثروات. وسأتناول هذا الموضوع من زاوية الثقافة الاقتصادية وتأثيراتها على فئات المجتمع وعلى تعامل المثقفين معها ودورهم في ردم الفجوة بين المثقفين والشباب بهدف خلق تنمية مستدامة ذات اثر اقتصادي إيجابي على فئات وطبقات ومكونات المجتمع في مقال لاحق مستقبلاً.
الدستور