جدل الحرب والسلام وفرصة تقليل العنف
المنطق الشكلي يقبل (في حدود وعي التجربة) تعريف الشيء بانعدام نقيضه، ومنها تعريف الحرب بانعدام السلام والعكس. فالحرب ضمن هذا المنطق هي انتفاء السلم. والسلم هو عدم وجود الحرب. وهذا التلازم هو ما منح بعض المصداقية لمحاولات فهم كيفية توليد كل منها للآخر. فالحرب والسلام منتجات مؤقتة لتفاعلهما، وكلاً منهما منظومة وعي تحيل لنقيضها وتنتجه.
فالحرب والسلام يتبادلا صياغة اللحظة الإنسانية بطريقة مستمرة. فالحرب استمرار للسلام، وضرورة له، وليست واقعه تهز استمراره. مقولة كلاوزفيتز، بأن الحرب امتداد للسياسة بوسائل عنيفة، تضيء جزءاً من ديناميكية الانتاج المتبادل بينهما. فهناك من يقول بأن التاريخ الإنساني هو تاريخ الحروب (بأشكال ووسائل متعددة)، تتخللها فترات هدنة (سلام). وهناك من يرى التاريخ مسيرة تطور إنساني سلمي، تمثل الحروب (بمختلف أشكالها) ضرورة لهذا التطور، وقابلة لتوليد المراحل الجديدة من المراحل السابقة. وحل هذا التناقض بقبول مقولة أنه لا وجود للسلام الخالص، كما لا توجد حرب كاملة. فهناك تداخل بينهما، يسمح لكل منهما بتوليد نقيضه. وهناك إملاءات لصورة السلام المنشود تصوغ وتحدد تفاصيل الحرب ومداها. كما أن احتمالات الحرب، ترسم حدود السلام وملامحه.
الموقف التنويري، الذي ينحاز للمستقبل الذي تصوغه أحلام الحاضر وخياراته، يتحدى بشكل واضح الرغبة بهندسة المستقبل وصناعته، عبر الحرب، أو السيطرة عليه ومنع وصوله بالسلام المدجج بالقوة. فالقوة حضور آني لضمان تعالي الحياة، وعدم تمكين أي تصميم لأي هندسة من مصادرة المستقبل. فالمستقبل لن يأتي عبر استعادة تفاصيل الماضي، ولن يكون تأبيداً لأي حاضر ممكن. فهو مسير نحو مجهول ما، نحتاج للقوة آنياً لتخليص مساراته من العقبات.
كتاب «السائرون نياماً»، والذي يسعى لإثبات أن الحرب العالمية الأولى، كانت تداعي غير واعي نحو الكارثة، يتضمن فرضية مركزية وهي أن الوظيفة التاريخية للحرب، إطلاق ديناميكيات لمستقبل لا أحد يستطيع التيقن من ملامحه. فعدم اليقين في مسارات الحرب، ينعكس على هوامش عدم يقين في نتائجها.
والملاحظة الأخرى هي أن الحياة السلمية لا تنتج ذات الحرب مرتين. كما لا تعيد الحروب انتاج الحالات السلمية التي انتجتها. كل حرب تنتجها تسويات سلمية لحرب سابقة، تعود وتنتج تسويات سلمية جديدة. وكل حرب تنتج تسويات، ستنتج بدورها حروباً مختلفة.
السيطرة على الحروب، وكبح جماحها كضرورة للتطور، يتطلب إدارة حتميتها في مسيرة التطور، عبر الفصل بين المعارك العنيفة وفكرة الحرب. فالخلط المتعمد بين الحرب ووسائلها، له كلف مروعة، تبتذل القوة، وتتفه فكرة الحرب التي تغير المسارات. فالمضمون الحقيقي للحرب، هو تغيير المسارات، وليس التمتع السادي بمعاركها الدموية. وعظمة القيادة، هي ادارة القوة، لتحقيق نتائج الحرب بدون معارك.
وضمن التصور الخلدوني، ترتبط حتمية الحرب، بالتفكك القدري العضوي (شيخوخة) ترتيبات السلام الراهنة. إذ أن ضعف وتفسخ البنية الراهنة، يمثل غواية لنشوء عصبة جديدة، تحتاج للحرب لتأسيس شرعيتها بالقوة. تصور ابن خلدون، بأن الحروب منتج لتزامن تفكك الراهن مع وهم استخدام القوة لإغلاق المسارات نحو المستقبل، قد يساعد على اكتشاف طريق سلمي وآمن نحو المستقبل، يجهض دعوات تفعيل اقتران الموت بالدمار كضرورة للتجدد وتحرير المستقبل.
صحيح أن التصور الخلدوني مرتبط، بضرورة القوة لإنجاح أي ترتيب سلمي وضمان استمراره واستقراره. فالسلام ترتيب مؤقت لتوازن متغير للقوة، وليس غياب لها. ولكن تطور الوعي، بتعدد أشكال القوة، وإمكانية إدارتها بطريقة تقلل الحاجة لاستخدامها الدموي، هو مسير التحولات بالحد الادنى من العنف. وانكار التحولات في معادلة القوى، هي دعوة صريحة لاستعمالها.
الدستور