حق الإنسان أن يكون مفهوماً 1-2
أهم ميزة لفكرة «حق الإنسان أن يكون مفهوماً»، هي تعلق فكرة الحق بالفهم، وهو فاعلية إيجابية. إذ تصان الحقوق بالحماية من التعدي. فأغلب حقوق الإنسان، تصان عبر امتناع الآخرين (أو منعهم)، من القيام بفعل ينتهك هذه الحقوق. فحق الحياة، والحرية الشخصية، كما حق الملكية، كلها حقوق تصان بمنع الآخرين من (وامتناعهم طوعاً عن) انتهاك حرمتها. فأغلب الحقوق تصان بمنع الآخرين من القيام بانتهاكها. ولكن حق الإنسان أن يكون مفهوماً، يتضمن واجب على الآخرين القيام به، إضافة إلى الامتناع عن تشويه الإنسان أو تنميطه، بطريقة تنطوي على اقصاء او تهميش. وهذا لا يعني، منع التنميط السلبي بالقوة (فمثل هذا المنع غير عملي)، وإنما استبداله بمقاربات معرفية غير اختزالية، قائمة على أساس تفعيل أقصى درجات «الاستيعاب الداخلي: Internalization» والفهم بالتشابه كبديل للفهم بالاختلاف، (فهم الآخر استناداً لاكتشاف التشابه مع الذات).
إذ أن فكرة حق الإنسان أن يكون مفهوماً، تنطوي على مقاربة معرفية واضحة وبدهية، وهي البحث عن التشابه كنقطة اسناد موضوعية للمعرفة (والتعرف). وكسر احتكار منهجية الفهم بالتمييز والاختلاف، بتدعيم منهجية الفهم بالاستيعاب والتشابه مع الذات. وهذه المقاربة، التي تستند إليها مبادرة «حق الإنسان أن يكون مفهوماً»، تتطور في بيئة صراعية. فهناك عنصر مثبط يعيق تطورها، وهناك عنصر محفز لهذا التطور.
فالتنميط -من جهة- ديناميكا دفاعية واعية، تنفذها البنى التقليدية لإعاقة الاندماج والاستيعاب الداخلي (التعرف بالتشابه)، لاحتواء ضرورة التفاعل مع الآخر. فالتنميط المتبادل بين الثقافات، ينشأ لحماية منظومة مصالح مستقرة، لاحتواء حتمية التفاعل، وعدم القدرة على التجاهل. إذ أن ازدياد تأثير وفاعلية الثقافة على الاقتصاد والأمن، بشكل غير مسبوق في تاريخ الإنسانية، تجعل التجاهل والتدابر بين الثقافات، خياراً غير ممكن عملياً. فلم يعد بإمكان أي أمة، أو ثقافة أن تعيش بمعزل عن الأمم والثقافات الأخرى. ولكن ميراث الاقصاء المتبادل، يديم فاعلية صناعة الجهل بين الثقافات، ويسعى لمنع وإعاقة التعرف بالتشابه.
ولكن من جهة التحفيز، فإن ثورة النقل والاتصال، جعلت تفاصيل الثقافات وجمالياتها متاحة للجميع. ففي حين كانت الحكومات تحتكر قنوات التفاعل بين الثقافات، ويقوم عدد قليل من أبناء كل ثقافة، بإدارة قنوات التبادل التجاري، والتنسيق الأمني بينها. أصبحت نسبة كبيرة من أبناء كل ثقافة، يتفاعلون، بشكل شبه يومي، مع أبناء الثقافات الأخرى، ويباشرون التجارة والتعاون العلمي، وتراجع دور الحكومات في احتكار إدارة قنوات التفاعل بين الثقافات. مما يجعل التنميط السلبي (والفهم بالاختلاف) ممارسة ضد تيار التقدم. فحجم التواصل عبر الشبكات، وانتشار المعرفة باللغات، وإمكانية تشكيل شبكات من الأصدقاء وزملاء العمل عابرة للثقافات، عناصر تجعل الاستيعاب الداخلي (الفهم بالتشابه) للثقافات امراً ممكناً، وقابلاً للصياغة بقواعد جديدة للمارسة الإعلامية والتعليمية.
وبالرغم من كل ذلك، ما زال ميراث التنميط فاعلاً بكثافة، ويشكل المواقف والتوجهات. ولا يمكن مواجهة هذا الميراث، بالمواعظ، ولكن بتشكيل مقاربات للفهم، قائمة على أساس اكتشاف ضرورة الفهم بالتشابه «الاستيعاب الداخلي»، وإمكانياته العملية. فهذه مقاربة لا تقوم على أساس انكار الاختلافات، ولكن على أساس اكتشاف ما يعادلها في كل ثقافة. فالثقافات –رغم اختلافها وتنوعها- تتشابه من حيث فاعليتها الإنسانية، ولكنها تختلف في تنظيم وضبط طرائق العيش، والوسائل السائدة في تلبية الحاجات. فالحاجات واحدة، وإن اختلفت الوسائل والطرق. والتنميط، بأبشع تجلياته، هو تبطين الرفض والإقصاء بوصف الاختلافات وتضخيمها. والاستيعاب الداخلي، قائم على أساس رد الاختلاف للوسائل، وتحرير النوايا والإرادة، من الخصائص العرضية التي تتجلى في الثقافة.
الدستور