نسيان تقرير ديوان المحاسبة
خمدت زوابع تقرير ديوان المحاسبة المثير للجدل تماماً، وكأنها ثارت ودارت وطارت في فنجان صغير. ويبدو أن مقولة (الناس تنسى في ثلاثة أيام وثلث) قاعدة ذهبية جوهرية تنطبق بكل حذافيرها على حالتنا في كل ما واجهنا ونواجه من أوجاع ومصائب وفضائح.
ففي فخ التعود والاعتياد، من المعروف أن الأوجاع لا تُلغي بعضُها بعضاً. بل لدى الجسم تكتيك خاص يجعلنا لا نشعر إلا بأطزج وجع مسّنا، أو بآخر مصيبة ضربتنا ودمرتنا؛ ولهذا فقد نتناسى عضواً مبتوراً من أعضائنا، أو قرحة مزمنة في رأس المعدة، ونركز في بثرة حمّرت جلدنا قبل ساعات. إننا ننسى كل المصائب والهموم ولا نأبه إلا بآخرها. فمرحى لذاكرتنا المثقوبة المعطوبة، فلولا خرابها لمتنا كمدا وكيدا ووجعا من زمن الديناصورات.
تقرير المحاسبة أثبت دقة ونجاعة نظرية الثلاثة أيام تلك. فنحن قد ثرنا وهجنا وتوجعنا على البلاوي الزرقاء والحمراء التي كشف عنها، والتي تدل على استشراء وتوغل وتعمق منظومة الفساد وبقاء المفسدين خارج دائرة العقاب. ولكننا نسينا الأمر برمته بحمد الله، ولم يعد أحد يذكر التقرير وتفاصيله، حتى دون أن يأتي حدث طازج يحل محله في موطن وجعنا. وهذا تطور مثير جداً.
قديماً قال حكيم عارف بتفاصيل مجتمعنا وطبائعه: (يا عمي جوّز ابنك لبنتك والفضيحة ثلاث تيام). بمعنى قد تفعل أشنع الشنائع وأعتى المحرمات، ما دام لديك ما يبلسم ذاكرة الناس: النسيان. فأكبر فضيحة لا تدوم أكثر من ثلاثة أيام. ولهذا كانت أيام العزاء بهذا العدد.
يقول العلم إن نسيان الأشياء القديمة مسؤول عنه (الذاكرة طويلة الأمد). أما نسيان الأشياء الطازجة التي لم يجف دم طلقها والتي فهذا مسؤول عنه ما يسمى (الذاكرة قصيرة الأمد). ولهذا فيبدو لي أننا اليوم نعاني تهتكاً في الذاكرتين معاً. إذ إننا ننسى البعيد البعيد، وبتنا ننسى القريب القريب. في ظرف يقل كثير عن الثلاثة أيام.
فهنيئاً لمن يعتمدون على ذاكرتنا القصرة الأمد البالية، وعلى ذاكرتنا الجمعية طويلة المتهالكة. وهنيئاً لمن يعرف هذا التكتيك الخطير ويتمسك باسترايجية الزمن، ومراهم نسيانه. فهذا كفيل بمداواة كل شيء وأي شيء، وكفيل بجعلنا ننسى أطزج أوجاعنا وأقدمها وأكبرها قبل أن ننسى آخرها. وكل هذا في ظرف زمني لا يتجاوز بقاء المنشور معلقا على حبال مواقع التواصل الاجتماعي.
الدستور