حق الإنسان أن يكون مفهوماً 3-3
مبادرة حق الإنسان أن يكون مفهوماً، تتبنى موقفاً حاسماً بإمكانية تمتع كل الثقافات والأمم والأعراق والاجناس بهذا الحق. وذلك استناداً إلى فرضية أن كل الثقافات، وبلا استثناء، تحتوي على المنهجيتين المتقابلتين: التعرف بالاختلاف للاقصاء، والتعرف بالتشابه للادماج. والمبادرة تنطلق من أن فهم كلا المنهجيتين، يمثل مدخلاً متكاملاً لتطوير عناصر التعايش والادماج المتبادل في كل الثقافات. إذ أن الثقافات مارست، وما تزال تمارس، (وإن بدرجات متباينة) كل من التنميط والاختزال لغايات الإقصاء والسيطرة أو الدفاع والحماية. وبالمقابل، وبشكل متزامن، كل الثقافات مارست وتمارس الفهم بالتشابه، لتعزيز الاندماج المتبادل.
لا توجد ثقافة ولدت مرة واحدة، ولا توجد ثقافة عاجزة عن التطور. الثقافات متطورة، وليست وجوداً نهائياً، أو «تجلي أزلي للوعي»، بل ديناميكا تطور مستمرة. فكل ثقافة هي منتج عمليات تطور سابقة، وهي مستمرة في هذا التطور. فالثقافة العربية، لم تولد مرة واحدة. وإنما تطورت عبر آلاف السنين من تفاعل الإنسان العربي مع البيئة، ومحاولات تكيفه معها، وتفاعله مع الثقافات الأخرى إقصاءً وادماجاً. والتنوع في أي ثقافة، هو منتج التنوع في بيئة تشكلها وتطورها، ومدى قدرتها على ادماج الثقافات الأخرى.
أهم عنصر وفاعلية شكلت محرك تطور الثقافات، هو تفاعلها، أو تفاعل أهلها، وانفتاح البيئة التي تشكلت فيها الثقافة على ادماج جماعات ثقافية أخرى. فوجود الثقافات الأخرى التي تتفاعل معها، بشكل ضروري وموضوعي، هو القوة الدافعة للتطور. فالثقافات لا تتطور بشكل ذاتي ومنعزل وانطوائي. بل تتطور عبرالتفاعل مع تحولات البيئة، وبروز الثقافات الأخرى. فالثقافات التي انعزل أهلها، ولم يتفاعلوا مع ثقافات أخرى، لم تتطور.
والتطور ينطوي على الشقين معاً، الرفض والقبول. تكريس الاختلاف والتمايز، كموقف دفاعي، واعتماد التشابه كآلية للإدماج والقبول. وتطور الثقافات عبر الإندماج مع ثقافات جديدة، مثل أهم ميزة لاغناء الثقافة وأهلها. والثقافات التي تمترست للدفاع عن وجودها، بتكريس الاختلاف ذابت وتحللت وانقرضت. ببساطة، منهجية التشابه وفاعليتها في أي ثقافة، هو دليل حيوية ومرونة، وقدرة على التطور وقدرة على الاستمرار. وضعف، او انحسار منهجيات التشابه في أي ثقافة، مؤشر على عدم قدرتها على إدماج الآخرين، وأيضاً عدم قدرتها على التطور، وقرب انقراضها كثقافة قائمة بحد ذاتها.
ولقد تطورت الثقافات وتشكلت في الماضي بشكل طبيعي، ودون قصدية أو تدخل سياسي، وبتفاعل حر بين الإنسان والبيئة، بما فيها الثقافات الأخرى. وما يجري منذ اكتشاف العلاقة بين السلطة والثقافة والمعرفة، أبان الثورة الفلسفية الأولى في القرن الخامس قبل الميلاد، واختراع المدرسة، هو صراع بين النقد الداخلي، والتصحيح الذاتي للثقافة، ومحاولات الهيمنة السياسية عليها، ومنع تطورها، لاعتراض فرص التطوير السياسي. واكتسبت الثقافات وعيها الذاتي بتاريخيتها، بالتفاعل بين: المحاولات السياسية لتوظيف الثقافة كوسيلة هيمنة وضبط وتأطير، والفاعلية التحررية التي تنطوي عليها كل الثقافات.
ثورة الاتصالات والنقل، لم تنهي محاولات العبث بمسارات تطور الثقافة، ولكنها ساهمت، بتراجع دور السلطة السياسية في توجيه الثقافة، وحصرت المسؤولية الثقافية للدولة المعاصرة، بتمكين المجتمعات من إغناء ثقافتها بشكل مباشر. وواجهت كل الشعوب بثقافاتها المختلفة، تحدياً جديداً، وهو مباشرة التكيف والتفاعل مع الثقافات الاخرى، بحد أدنى من فاعلية الوسيط السياسي والإداري لمؤسسات الدولة.
من هنا، فإن إدراج مبادرة حق الإنسان أن يكون مفهوماً في المناهج المدرسية، يعزز «منهجية التشابه» في كل ثقافة، ويطلق ديناميكا الإثراء المتبادل والإدماج المتقابل بين الثقافات، عبر الفاعل الحقيقي في أي ثقافة، وهو الفرد الذي يتفاعل مع بيئته ومع الثقافات الاخرى.
الدستور