«حق الإنسان أن يكون مفهوماً» وأزمة الهوية المعاصرة 1-2
بعد أشهر من تقديم مبادرة حق الإنسان أن يكون مفهوماً في هيئة تحالف الحضارات، وفي ذروة الحوار العالمي حول تداعيات الرسوم المسيئة للنبي محمد (عليه الصلاة والسلام) تقدمت كل من السعودية ومصر، في شهر أيار عام 2008، وعبر منتدى حوار الشمال والجنوب، بمبادرة عنوانها: «الحرية المسؤولة في مواجهة حرية التعبير». رُفضت المبادرة المصرية السعودية، على أساس أن حرية التعبير منجز إنساني تاريخي، لا يمكن مراجعته بسبب حادث مشوب بالكثير من الغموض، ومشبع بسوء الفهم المتعمد وتأثيرات صناعة الجهل. وأعيدت التوصية بتفعيل مبادرة حق الإنسان أن يكون مفهوماً، على أساس أنها وسيلة لتطوير الممارسة، تضمن التمتع الإنساني بحرية التعبير، وتطوير ممارسة هذه الحرية وتخليصها من بعض الشوائب بأدوات فكرية ثقافية، وليس عبر فرض سلطة تقيدها.
الأحداث التي شهدتها فرنسا مؤخراً وتداعياتها، أعادت الأهمية للفهم، كضمانة للحرية. إذ شكا الرئيس الفرنسي ماكرون، في مقابلته مع الجزيرة قبل أسابيع، من «سوء الفهم» المتعمد الذي تعرض له شخصياً وتعرضت له بلاده. إذ أن صناعة الجهل التي أضرت بصورة فرنسا، ومحاولة وضعها في حالة مواجهة مع الإسلام والمسلمين، تطلبت عنايته الشخصية للتصدي لها عبر منصة إعلامية عربية، لتوضيح مضمون خطابه، ومضمون موقفه كرئيس دولة، وإنسان له فهمه لدولته وللعالم. وهو يعلن صراحة في المقابلة بأن هناك «ترجمات... كاذبة» وهذا التعبير الذي استعمله الرئيس الفرنسي، حسب الترجمة المتاحة، مؤشر على أنه لا يوجد من هو في منأى ومأمن من أن يكون (أو أن يصبح) ضحية لسوء الفهم المتعمد وصناعة الجهل.
تداعيات ما حدث في فرنسا، دفعت الرئيس الفرنسي ماكرون للقول، بأنه: « يجب أن نتعلم، أن نتعرف على بعضنا البعض، أن نفهم من أين أتت قوانينا ومن أين أتت عاداتنا». وهو يقول أنه يرى «بحزن»، أن الخوف من تداعيات وآثار صناعة الجهل، وسوء الفهم المتعمد، ادت إلى «تخلي العديد من دول العالم عن حرية التعبير». إذ أنه يربط صناعة الجهل بما أسماه «فوضى ردود الفعل». وهو يعتبر هذا خطير على حرياتنا جميعاً.
فصناعة الجهل، تمثل تهديداً لحرية التعبير، وهي بالرغم من اكتشاف آثارها السلبية، إلا أن العالم للآن، لم يطور وسيلة فكرية ثقافية عالمية للتعامل معها واحتوائها. إذ بالرغم من أن صناعة الجهل، لا تتشكل عبثاً، وليست دون وظيفة تاريخية صراعية، إلا أنها ليست صناعة منظمة بهئيات واضحة، تجعل بالإمكان مواجهتها بوسائل إنفاذ القانون في الدولة الحديثة.
يترافق ذلك مع تحولات استثنائية في مفهوم الحقيقة ومعاييرها، وقواعد الممارسة المعرفية، بعد انهيار هرميتها بشكل تاريخي، مما يجعل إمكانية السيطرة المركزية على سيل المعرفة وتشكلها وهماً خادعاً. وخصوصاً تكشف العلاقة الملتبسة بين تحلل البنية المعرفية التقليدية، وتحلل الهويات التقليدية. فالخطر الذي يواجهه العالم، ليس تحلل هويات قديمة وتشكل هويات جديدة. بل تحول نوعي في طبيعة فهم الذات، ومضامينها الحاسمة التي تصوغ علاقة الذات بالآخر، ومطالبها المتوترة من الهويات الأخرى.
فالحدود الموضوعية القديمة، التي كانت تصوغ وعي الذات والآخر عبر منظومة الهويات العالمية، تتغير بشكل لا يمكن السيطرة عليه بذات الأدوات والوسائل القديمة. فحاجة الهوية «لأن تكون مفهومة» من الآخرين، أصبحت «ضرورة متبادلة»، كشفت عنها التداعيات المتصلة بالأحداث التي شهدتها فرنسا. مما دفع الرئيس الفرنسي ماكرون، لأن يطالب الآخرين بفهم الهوية التاريخية لفرنسا. فمخاطر التباس المعايير التي تصوغ فيها الهويات علاقتها مع الآخرين، يحتاج لأدوات فكرية جديدة لاحتوائها.
الدستور