الدول المستبدة بين عصا الديمقراطية وجزرتها
بعد أيام على دعوة العاهل الأردني الملك عبد الله الثاني لإجراء إصلاحات سياسية، وضرورة تعديل حزمة تشريعات ناظمة للحياة السياسية، تداول نشطاء منصات التواصل الاجتماعي نتائج مؤشر الديمقراطية الذي أطلقته وحدة الاستخبارات الاقتصادية في مجموعة الإيكونوميست البريطانية، ويُصنف الأردن دولة مستبدة.
النتيجة قد تبدو صادمة للبعض، وقد تبدو منطقية وطبيعية لآخرين، ولكنها في كل الأحوال تؤشر إلى أن الواقع السياسي للأردن الذي يتباهى بأنه مختلف عن المحيط العربي ليس بخير.
كلما سُئلت عن تقييمي لواقع الأردن، أجيب بلا تردد أنها من دول الهامش الديمقراطي، وهي كما الكويت والمغرب ولبنان، تمتلك مساحات لتعترض وتقول رأيك دون أن تختفي، أو تجد نفسك خلف قضبان السجن، هذه الهوامش لحرية التعبير، أو الانتقاد لا تعني الانتقال لدولة ديمقراطية تنظيرا وممارسة.
مؤشرات التقييم في العالم التي تتبناها مؤسسات دولية كثيرة كلها محط جدل ونقاش، وكلما صدر تقرير في العالم تعرض للطعن والتشكيك بمنهجيته ونتائجه، وسعت الدول التي تتذيل قائمة المؤشر سواء كان للديمقراطية أو للفساد، أو حتى لسيادة القانون إلى شيطنة مُعديه، واتهامهم بالتآمر والإساءة لسمعة بلادهم.
لا نسمع كثيرا نقدا منهجيا علميا، أو محاولات للاستماع من أجل تصويب الأوضاع، وقليلة الدول التي تحفل بالتغيير في ظل اتساع رقعة الدول المستبدة في العالم.
مؤشر الإيكونوميست يضع إسرائيل وتونس في قائمة الدول الديمقراطية في الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، وما عداها يتدرج بين دول وصفها بـ "ديمقراطية معيبة" أو يمكن تسميتها ديمقراطية ناقصة، وثالثة دول ذات نظام مختلط تجمع سمات ديمقراطية واستبدادية، ورابعة وأخيرة أطلق عليها "مستبدة".
تتربع النرويج على قمة الدول الديمقراطية بعلامة كاملة، وتحتل الدرك الأسفل كوريا الشمالية، في حين تسبقها بدرجات قليلة سوريا، والأكيد كما الحال دائما فإن 6 دول عربية تحفظ مكانة لها كأسوأ نماذج لدول مستبدة.
التقرير يُشير بوضوح إلى أن الديمقراطية تتراجع في العالم، وفقط 22 دولة صُنفت كدول ديمقراطية بين 165 دولة.
إن كانت الديمقراطية تحتضر في العالم؛ فإن جائحة كورونا ساهمت وعجّلت في إطفاء جذوتها، وأطلقت هذه الجائحة رصاص كواتم الصوت على محاولات النهوض، واستخدمت كثير من دول العالم قوانين الدفاع، والتدابير الاستثنائية لضرب الحريات العامة والشخصية، وفي طليعتها الدول التي لا تحفل بسيادة القانون.
العالم العربي الذي صُنفت غالبية دوله بالمستبدة باستثناء تونس ديمقراطية، والمغرب ولبنان والجزائر وصفت بأنظمة هجينة، يعرف ويُدرك مواطنوه معاني الاستبداد والحكم الشمولي، فهم يتذيلون قائمة مؤشرات حرية التعبير والإعلام، والفساد والحكم الرشيد، وسيادة القانون. وعودة إلى أرشيف لجنة حماية الصحفيين، أو بيت الديمقراطية "فريدم هاوس"، أو الشفافية الدولية يكفي لمعرفة الحال البائس الذي تعيش به هذه الدول، والمعاناة التي يرزخ تحتها الناس.
قبل عقدين من الزمان، وفي بداية الألفية الثانية هبّت نسائم مُبكرة لـ "الربيع العربي" توجت بتجارب للإصلاح مع تسلُم الملك عبد الله الثاني للحكم في الأردن، وتبعتها المغرب في عهد الملك محمد السادس، وبدأت تباشيرها بالحكم الجديد في البحرين، ثم انتقلت العدوى لسوريا في عهد الرئيس بشار الأسد، وتزامن هذا مع حركة دولية، واهتمام الدول الثمانية الصناعية والتي عُرفت باسم "G8" في صنع بيئة مواتية لبناء الديمقراطية جرى التعبير عنها بتأسيس منتدى المستقبل الذي قدم مبادرات مشتركة بين حكومات الشرق الأوسط -باستثناء إسرائيل- والمجتمع المدني لترسيخ قدم للديمقراطية والحوكمة الرشيدة، ما لبثت أن انهارت وتراجعت، وتوقف الحديث عنها.
الحلم بـ "الربيع العربي" آنذاك كان الاسم الحركي لـ "الشرق الأوسط الكبير" الذي بدأ العمل من أجله بعد أحداث سبتمبر 2001، وأعلن عن ولادته رسميا عام 2004، ولكن مد الإصلاح والدمقرطة لم يُكتب له النجاح، ودُفن مشروع "الربيع العربي" دون مراسم للحداد.
رياح التغيير لم يطل انتظارها طويلا، فقد عادت مجددا في "الربيع العربي" عام 2010 لتُسقط احتجاجاتها وانتفاضاتها أنظمة عربية لم يكن من المحتمل رحيلها، وتزعزعت عروش كثيرة، واندلعت حروب أهلية ما تزال تُلقي بنتائجها الكارثية ودمارها على المنطقة حتى الآن. وموجة "الربيع العربي" التي تعالت، انحسرت مجددا وعاد خريف العرب ليُحكم كماشته، ويُبدد آمال الملايين.
تونس التي صُنفت دولة ديمقراطية كانت الثمرة الوحيدة لـ "الربيع العربي" على الرغم من مخاضها الصعب، ورغم الصراع المستمر بين أجنحة الحكم، والانتقادات الشعبية للسلطة التي تُتهم بتقاسم المنافع منذ عقد من الزمان، في حين أن غالبية الناس تتزايد معاناتها المعيشية كل يوم.
معادلة التماهي والاستجابة حتى وإن كان خداعا مع الضغوط الخارجية كانت سمة لافتة في الواقع العربي، وهذا لا يعني بالمطلق ولا يُغيب المواجع الداخلية، والغضب المستعر بين جدران الحدود، غير أن "الدولة العميقة" كانت دائما يدها الأقوى، وحافظت القبضة الأمنية على سيطرتها، وقدرتها على تطويق واجتثاث "جينات" الديمقراطية أولا بأول.
في سنوات حكم الرئيس الأميركي دونالد ترامب غابت الديمقراطية، وسادت الحراكات الشعبوية في العالم، وتمددت الحكومات المستبدة حتى خارج حدودها، وأصبحت شعارات الحرية نكراء لا بواكي لها.
يدق مؤشر الإيكونوميست للديمقراطية الجدران الموصودة مع تقلد الرئيس الأميركي جو بايدن لسلطاته، وترتجف أوصال سلطات أنظمة مستبدة في العالم وهو يُجاهر بعصا الديمقراطية وجزرتها، ويتمنى المسحوقون في أرجاء المعمورة أن يفيقوا وقد انزاح دُجى ليلهم الطويل.
ثلث دول العالم تعيش في أنظمة مستبدة، وتنتظر بفارغ الصبر أن تنتهي عذاباتها، وتستعيد كرامتها الإنسانية.
الشعوب العربية بعد تجاربها لا تُعلق آمالا على مُخلص سواء كان الرئيس بايدن أو غيره، ولكنها مثل الغريق يتعلق بقشة تُنقذه من ألمه وموته البطيء.
المصدر : الحرة