إنه كان ظلوماً جهولاً
لماذا اختار الله تعالى كلمة (اقرأ) لتكون أول أمر الهي الى عباده من الناس أجمعين؟ اعتقد ان كل ما يرتبط بالإنسان، في دنياه او في آخرته، مرتبط بالقراءة التي تفضي الى العلم والمعرفة، والنظر والتبصر، وتفعيل العقل للإحاطة بكل ما حوله، فهماً وتمحيصاً، استكشافاً واستبصاراً واستدلالا.. باعتبار ذلك الطريق الى الإيمان واليقين والسعادة. لكن لماذا (القراءة) والعلم هما البداية، الا يرتبط ذلك بإقرار المسؤولية التي يتحملها الإنسان لانجاز مهمته في هذا الكون، عمارة وخلافة، وخضوعه - بالتالي - للقوانين الكونية التي يخضع لها في الدنيا والموازين الجزائية التي سيخضع لها يوم القيامة؟.
إذن ثمة ارتباط بين القراءة وفعلها (اقرأ) المفتوح على كل أصناف المعرفة والتعقل والتفكر وبين (المسؤولية) هذه التي يحددها الإسلام في علاقة الإنسان بربه أولا، وتندرج تحتها علاقاته بالآخرين او - حتى - بضميره ونفسه ناهيك عن الموجودات والأشياء الأخرى.
لا مسؤولية اذن، بدون (قراءة) ووعي ومعرفة وعلم، ولا مسؤولية بدون حرية وإرادة (وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا) بل انه اذا حصل إكراه او نسيان او اختلال في العقل تعطلت المسؤولية (ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا او أخطأنا)، وهذا كله يعزز مفهوم المسؤولية التي يعتبرها الإسلام (أمانة)، وجدت منذ ان خلق الله الإنسان واصطفاه لعمارة هذا الكون، (انا عرضنا الأمانة على السموات والأرض والجبال فأبين ان يحملنها، وأشفقن منها، وحملها الإنسان، انه كان ظلوماً جهولاً)، ظلوماً حين عطلها، وجهولاً حين لم يحط بها علماً وفهماً ودراية.. ولهذا فان من يخون الأمانة التي هي المسؤولية، بكل أنواعها، يخون الله ورسوله.. والشرط الذي تحقق فيه (الخيانة) هو (العلم) بها، وإدراك مخاطرها (او تخونوا أماناتكم وأنتم تعلمون).
باختصار، أصل المسؤولية الذي يجعل منها امراً معقولاً، ناهيك عن انه تكليف الهي (المسؤوليات تكاليف) هو انه اذا كان هنالك حق في هذا الكون فيجب الإقرار به لأنه حق، ويجب اعتبار التوافق معه امراً طبيعياً، كما يقول فقهاؤنا، ولما كان أدرك هذا الحق يتوقف على العلم به فان هذا العلم يطوقنا بالمسؤولية، وبما ان شعورنا بالالتزام بالحق لذاته هو منبع المسؤولية فان هذا الالتزام هو النواة الصلبة للمسؤولية، وبهذا يبدو مفهوماً معنى كون الإنسان مسئولا من خلال محاسبته على أفعاله، إما أمام من أناط به هذه المسؤولية، وإما أمام ضميره، وإما أمام القانون والمسؤولية محددة - دائما - بالوسع والاستطاعة (فاتقوا الله ما استطعتم) وقد عبر عنها القرآن الكريم (بالأمانة) كما قلنا لأنها ميثاق بين الإنسان وخالقه.. وتكليف الهي وقيمة مرجعية لكل ما في الدين من قيم.
الدستور