تحديث الآليات ليس قفزاً على الثوابت
في سياسة أي دولة هناك خطوط حمراء لا يمكن تخطيها أو القفز عليها، كونها تشكل القاعدة الصلبة التي تنطلق منها في تعاملها مع القضايا الخارجية والداخلية، وهذا أمر مفهوم ومبرر، إلا أن حماية هذه الخطوط يتطلب مرونة في التعاطي مع التطورات، وإلا أصبحت السياسة خارج إطارها الزمني، وبالضرورة عاجزة عن استيعاب المستجدات والمتغيرات.
ما حدث في الأسبوعين الماضيين لا يمكن قراءته ضمن إطاره الزمني المحدد، بل هو نتيجة لتراكم المتغيرات وتبدل المواقف الدولية وظهور معطيات إقليمية لم تلامس الخطوط الحمراء فحسب، بل ألغتها أحياناً بشكل نهائي، وكل هذا انعكس على مشهد الإقليم وملفاته الرئيسية وفي مقدمتها ملف الصراع الفلسطيني الإسرائيلي والملف الإيراني.
المتغيرات التي شهدتها المنطقة تجاوزت المواقف الدولية والإقليمية، إلى عمق المجتمعات العربية، وأثرت بشكل واضح في قناعاتها وتوجهاتها، بحيث لم تُعد الكثير من المجتمعات معنية بالسرديات التاريخية، فما كان مرفوضاً سابقاً بات خياراً مقبولاً اليوم للكثيرين، إذ أصبحت مفاهيم البراغماتية هي النهج الأقرب على الصعيدين الرسمي والشعبي.
الإقليم ورغم حجم المتغيرات التي شهدها، إلا أنه مقبل على ما هو أكبر وأشد تأثيراً، لذا فالعديد من الدول بدأت مبكراً بإعادة حساباتها وتشكيل سياساتها بما يضمن مصالحها وأمنها، فهناك دول إقليمية بدأت بالانفتاح على إيران وتركيا وإسرائيل، وذلك في استجابة سريعة للمتغيرات، بحيث لا تكون الطرف الخاسر في المعادلة الإقليمية والدولية.
محلياً، ورغم أن قدر الأردن أن يكون في قلب المنطقة ولا يمكن فصله عضوياً عن أي أزمة من أزماتها، إلا أننا ما زلنا في مرحلة أقرب إلى التردد بين البقاء أسرى للمدرسة التقليدية التي ترى أن المواقف الثابتة تستلزم آليات ثابتة، وبين الذهاب إلى المدرسة الداعية إلى تنويع الآليات والخيارات دون المساس بالخطوط الحمراء للدولة الأردنية، ولعل ما يجري الآن في المنطقة يؤكد أن سرعة استجابتنا للمتغيرات يشوبها البطء والانحياز للمدرسة التقليدية، الأمر الذي قد يخرجنا من دائرة المشاركة في إخراج وصياغة السيناريو، إلى دائرة الجمهور المتفرج.
نفهم أن الأردن زاهد في الاستعراضات الإعلامية، ونفهم أن ليس كل ما تقوم به الدولة صالحاً للنشر، ولكن في ذات الوقت ندرك أن الحديث عن فعالية سياستنا الخارجية لم يعُد شيئاً يمكن التغاضي عنه، باعتباره مجرد هرطقات في وسائل التواصل الاجتماعي، فالواقع أثبت أن هذه الوسائل قادرة على تغيير قناعات واتجاهات لا يمكن لأحد توقع مدى تأثيرها وقوتها، فما يُطرح اليوم في هذه الوسائل عن دورنا وتأثيرنا الخارجي يجب أن يقرأ بشكل جيد، فالمواقف الخارجية تستند أصلاً على صلابة وإيمان الجبهة الداخلية، فكيف إن كانت هذه الجبهة لديها علامات استفهام كبيرة حول مدى تأثيرنا ودورنا الإقليمي؟.
وما ينسحب على تعاملنا مع المستجدات والمعطيات الخارجية، ينسحب كذلك على تعاملنا مع المتغيرات الداخلية، فحالة التراخي الزائد على اللازم وبطء الحركة وعدم مواكبة المتغيرات تلازمنا في مختلف القضايا، وعملية الاستعصاء وعدم التحرك السريع في ملف الإصلاح السياسي والإداري بالتزامن مع حالة الجمود في آليات السياسة الخارجية، بدأت تضغط على العصب الحساس شعبياً بشكل واضح تماماً لمن يريد أن يقرأ ما يكتبه الناس على وسائل التواصل الاجتماعي.
الخلاصة: المنطقة تتحرك بسرعة كبيرة منذ سنوات، والمتغيرات لن تستثني أحداً، والدول التي لا تعيد ضبط سياستها وآلياتها ضمن هذه السرعة ستكون أكبر المتأثرين.
الدستور