تريدون « الإصلاح» أم لا ..؟
لدينا تراث عالمي وإنساني كبير من الوصفات السياسية الجاهزة لتدشين مرحلة «انتقال « ديمقراطي حقيقي ، ولدينا - أيضا - تجربة معقولة لحراك سياسي وحزبي وشعبي مفتوح يمكن الرجوع لقراءتها في كتب ومذكرات ومطالبات صدرت لبعض الذين نشطوا في هذا المضمار ، لكن لدينا عقدة من تكرار الحديث في هذا الموضوع ، او من تعليق الآمال على ما ينطلق من وعود حوله ، فعلى امتداد السنوات الماضية ، تراجعت المسيرة الديمقراطية في بلادنا ، وتراوحت دعوات الإصلاح السياسي بين مد وجزر ، وارتبطت غالبا بالمتغير الخارجي أكثر من ارتباطها بالضرورة او الدافعية الوطنية .
وبدلا من ان نتوجه الى الفعل الذي لم يكن بحاجة لأكثر من إرادة وقرار ، توجهنا الى التغطية عليه بإنشاء وزارة للتنمية ( الشؤون ) السياسية ، وكأن السياسة في بلادنا بعد (75 ) عاما بحاجة الى تنمية تأخذها الى الرشد والنضج ، مع اننا ندرك تماما ان الدخول في التجربة ، وتصويب أخطائها ، وتمكينها من إرساء قوانين وتقاليد ، هو مفتاح التنمية الحقيقية ، باعتبار ان الكلام الطويل عن التنمية والإصلاح ، هذا الذي استغرقنا طويلا فيه ، شيء يختلف تماما عن مباشرة التنمية في الميدان.. وعن مباشرة الإصلاح بالعمل والإنتاج ، لا بوضع التصورات والخطط وتوزيع الوعود وتزاحم الحوارات والورش وجلسات العصف الفكري وتعليق التأخير على مخاوف تغيير المعادلات القائمة ، او على هواجس الظروف الطارئة.
الآن (بعد جولات الربيع العربي التي أسقطت كثيرا من الفزاعات القديمة ) بوسعنا ان نسأل بصراحة: هل لدينا الرغبة والإرادة بإخراج ملف الإصلاح السياسي من دائرة الكلام والوعود والإجراءات البطيئة الى التنفيذ العاجل والمدروس ، هل دقت ساعة الحقيقة فعلا لنباشر تنفيذ مشروعه دون إبطاء ، وقبل ذلك ، ما هو الإصلاح السياسي الذي نريده ، وهل سيختزل في قانون الانتخاب فقط ، ام في إحياء الحزبية وفق رؤية عابرة للمخاوف والتحفظات ومقررات الوجوه المتناقضة ، ثم ماذا عن مجالات الحريات العامة وتشريعاتها ، وماذا عن آليات تشكيل الحكومات ومحاسبتها ، وعن الفساد وجذوره الممتدة في الأعماق وغير ذلك من العناوين التي تتعلق بصناعة القرار؟
الإصلاح السياسي يفترض ان يكون مشروعا للتحديث ، لا مجرد محاولة للتحسين والتزيين وطلاء الجدران ، ويجب أن يؤسس لمرحلة من التقويم والنقد والحراك المجتمعي لا للتسليم بالواقع والمحاصصة وتقليب المصالح والمواقع وفق المعادلات القائمة ، وهو ذلك يحتاج الى مصلحين و سياسيين جدد ونخب حقيقية ومناهج وبرامج سياسية ، والى قيم وطنية وسياسية واجتماعية تتجاوز ما ألفناه من قيم الشطارة وأعراف البزنس ومقولات الجغرافيا واعتبارات المكافأة والترضية ومبررات تقديم أصحاب الحظوة على أصحاب الكفاءة.
حتى الآن ، لا تزال هذه الأسئلة وغيرها معلقة بلا إجابات ، ولا نزال - نحن - نتمسك بآمالنا المشفوعة برجاء التطوير والخروج من محنة الجمود والتعطيل والتعويل على ما يريده الآخر لنا ، لكن ذلك لا يمنعنا من التنبيه الى عدم الانشغال بما يجري اذا كان الهدف منه الاستهلاك فقط ، او استباق ما ينتظر ان يأتي من الخارج ، او عادة السجالات التي شهدناها في مواسم الفزعات الى الصدارة مرة اخرى ، او غير ذلك من المبررات التي لا تخفى على المواطن الذكي ، ومعيار اهتمامنا - هنا - هو الحركة نحو الفعل والمبادرة ، وما يصدر من مقررات وقرارات ، وما يعتمد من ضرورات داخلية وخصوصيات محلية ، واعتبارات وطنية ، لا ما يقال من تكييفات او رسائل او محاولات للتغطية وتزيين الصورة.. او إشغال الصالونات والاعلام والنخب العاطلة عن العمل.. بالكلام فقط.
الدستور