الهجرة النبوية الشريفة – الفكرة والعبرة.
الهجرة النبوية الشريفة، هي بداية مرحلة عقائدية ومسيرة فكرية، وجهت البشرية إلى وجوب التحرر من مقيدات العقل وتحاجير الظلم البشري، وفتحت أمامه آفاق التنور السليم والعيش الكريم، وخطت النهج الرباني القويم في منهج الحياة المستقيمة، المبني على القواعد الربانية في العدل والإنصاف.
فيـوم الهجرة، هو يوم مجيد بتاريخ الإنسانية جمعاء، انتقلت فيه من عهد قائم على الانغلاق إلى عهد مؤسس على الانفتاح، ومن منهج يحكمه الجـَـور والاستبداد إلى منهج تشع منه قيم الحرية والحياة الفضلى. فكان إصرار المهاجرين على الخروج من مجتمع يسوده القهر والظلم والجاهلية مضحين بأرواحهم ومالهم، وكما كان استقبال الأنصار البهيج لإخوانهم المهاجرين بفرحتهم الغامرة وشوقهم الغزير، وهـما ينتظران مستقبلا من الزمن، يتشارك الطرفان بقيادة خير خلق الله في صياغة معالم هذا الزمن ورسم خارطة الدولة الجديدة وتكوين مجتمع الإخاء والرحمة، وفق مبادئ لم تعهدها البشرية من قبل، وبالاحتكام لنواميس إلهية ترسخ معنى عمارة الإنسان الحقيقية لهذا الكون الفسيح.
لقد كرّست الهجرة النبوية، بما حملته من عقيدة ثابتة ومبادئ سامية، هدفا أساسيا من ركائز الدين الاسلامي الحنيف، وهو التخلص من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد. فكان هذا الهدف من أكثـر القيم التي تشهدها الإنسانية تقدما وكرامة، وأعاد للإنسان حريته كإنسان وهيبته الآدمية، بصياغة جديدة لفلسفة هدف الوجود الإنساني على الأرض، بعبادة الله فقط ولا سواه.
ولقد وضعت الهجرة النبوية، بكل مكوّناتها ومضامينها، لبنة الارتكاز في بناء الدولة الإسلامية. تلك الدولة التي ازدهرت بكلّياتها المتكاملة، بالمنهج الذي يتحرر فيه الإنسان من ظلمة المكان وظلم الإنسان إلى سعة الأفـق وعدالة النهج، والتخلص من مكبلات الفكر وتعميق مقتضيات خلافة الأرض.
كما أسست الهجرة النبوية، الرحلة والفكرة، عبرات كثير في العلاقات الإنسانية. فكان لرفقة أبي بكر الصديق مع سيدنا محمد عليه أفضل الصلاة وأتم التسليم، أثر بليغ في تخفيف وطأة الرحلة ومشقة المواجهة، بشكل يبرز المعنى الحقيقي للصحبة الصادقة ودورها العظيم في مسيرة الحياة. وكان لإيمان المسلمين الخالص بدعوة رسولنا الأعظم الأثر الجلي في تجاوز أي تحدي والتسامي عن أي مصالح، في سبيل نصرة تلك الدعوة بقوة الإرادة ونشرها بكفاءة العزيمة، ليقينهم الراسخ أن تجارتهم الرابحة في هذه الدنيا لا تكون إلا مـع الله عز وجل.
وتـُظهر الهجرة النبوية ضرورة أن تؤمن الدولة بعقيدة سليمة وتنشر رسالتها الصحيحة سواء بتعاملها العادل مع أبنائها أو في علاقاتها مع غيرها من الدول والجماعات. فها هو الدين الإسلامي الحنيف، الذي تنزل على سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم وبدأ فردا بنشره، غـدا بعد فترة من الزمن، وبعدالة الحاكم وعقيدة الرعية الحقة، يملأ العالم بتعاليمه السمحة ومبادئه الرحمة، وتهاوت دول عظيمـة أمام فكرة هذا الدين السماوي القويـم.
ونحن نحتفي بذكرى الهجرة النبوية الشريفة، لا بد من وعي فكرة تلك الهجرة وتعزيز عبرها الكبيرة، وتكريس مواعظها وعظاتها العميقة، حتى نسير في هذه الحياة على النهج الرباني الصحيح، ونهتدي بسيرة سيد البشرية عليه الصلاة والسلام في عمران هذه الأرض، بتكاملية فاعلة بين الدين والدنيا.
الدستور