العلاقة غير الطبيعية بين العالم الثالث والديمقراطية
وتأبى السياسة، تلك الداخلية في الدول المختلفة وتلك الدولية التي تحكم العلاقات بين الدول على اختلاف أنظمة حكمها، إلا ان تؤكد لنا مرة تلو الأُخرى شكلها ومبناها الحقيقي، وملخصه انها كانت وما زالت وستبقى ذلك المجال الذي تحكمه المصالح والمنفعة بعيدًا عن القواعد المنظمة والقيم الواضحة والراسخة وبالتالي فإنها أي السياسة داخلية او خارجية، وربما هذا مصدر سحرها وسبب كونها مثيرة للاهتمام، لا تخضع تمامًا وبشكل كامل للنظريات المختلفة فهي ليست علومًا دقيقة، ومن هنا فهي مساحة خصبة تشكل مجالًا يقبل الربط بين احداث قد تبدو للوهلة الأولى بعيدة جغرافيًا وإعلاميًا ومضمونًا، وهي من جهة أُخرى ترفض فكرة المقارنة أو محاولة المقارنة بين احداث تبدو متشابهة ومتقاربة، علمًا ان فكرة او محاولات المقارنة السياسية أشغلت العلماء والفلاسفة بدءا من ارسطو الذي استخدم فكرة المقارنة خصوصًا للأنظمة والدساتير وكذلك ميكيافيلي الإيطالي ومن ثم مونتسكيو في دراسته للأنظمة السياسية وعلاقة البيئة والاخلاق فيها وجان جاك روسو الذي حاول عبر فكرة المقارنة دراسة الأنظمة السياسية داخل القارة الأوروبية، ما شكل لدى بعض خبراء العلوم السياسية سببًا للقول ان المقارنة السياسية صحيحة ما دام الأمر يتعلق بأوروبا القارة العجوز أي العالم المتحضر والمتقدم اقتصاديًا وسياسيًا وديمقراطيًا، وهو قول له ما يستند اليه.
ما سبق هو ملخص ما تبادر الى ذهني ومنه الى قلمي إزاء أمور عدة شهدها العالم الواسع بل السياسة الدولية خلال الأيام الأخيرة، وخاصة ما شهدته أفغانستان، من جهة، من احداث غير مفهومة بل تثير ملايين علامات السؤال والاستغراب والاستفهام، كان ظاهرها استيلاء حركة «طالبان» على مقاليد السلطة وفرار الحكومة الأفغانية التي حكمت البلاد على مدار 20 عامًا استندت فيها الى حراب الجيش الاميركي ونعمت بميزانيات غير محدودة حتى ان الإحصائيات والأرقام تؤكد ان اميركا «صرفت» في أفغانستان ما قيمته 2.25 تريليون دولار أي 2250 مليار دولار، لتمويل السلاح والجيش والحكومة والشرطة والمخابرات لتنهار كل تلك الاستثمارات كأبراج من ورق امام «طالبان» بسلاحها الخفيف وعتادها الطفيف وتدريبها غير الموجود أصلا، ما يعني تغلب الانتماء الديني او النزعات الدينية على المبنى او الكيان السياسي كما انه شئنا ام ابينا وشاءت واشنطن ام ابت يشكل فشلًا لمساعيها فرض الديمقراطية على دول العالم الثالث واستمرارًا لفشل الربيع العربي، ومن جهة أخرى إزاء ما شهدته إسرائيل من ضجة سياسية على خلفية تصريحات للوزيرة السابقة من الليكود ميري ريغف حول الصراع المتأصل بين الطوائف الشرقية والاشكنازية اليهودية وشعور الأولى بانها تعاني التمييز والإقصاء من مواقع السلطة والقوة والتأثير، وخاصة حديثها عن انها تعتبر نفسها يهودية أولاً ومن ثم إسرائيلية وديمقراطية وهو ايضًا انتصار للانتماء الديني على المبنى او الكيان السياسي او المدني كما انه شئنا ام ابينا فشل في فهم الديمقراطية واعتراف بانها «في الشرق لا تنفع» او الاعتراف بأن الديمقراطية والشرق والشرقيين والعالم الثالث «خطان متوازيان لا يلتقيان».
قبل الخوض في تفاصيل اوجه الشبه والاختلاف بين الأمرين السابقين، لا بد من القول إن محاولة فهم وتحليل العالم الجديد في مجال السياسة والعلاقات الدولية وخاصة منذ انهيار الاتحاد السوفييتي (سياسة الغلاسنوست التي تبناها ميخائيل غورباتشوف) تحتم عمليًا تجاوز المقاربات القديمة فالعالم الجديد او سياسة العالم الجديد تتطلب أدوات جديدة لفهمه وتفكيك رموزه، فالعالم الجديد هو كما يبدو، عالم تتصرف فيه الدول الكبرى وتلك الصغرى ايضًا وفق ما يضمن لها أمنها أولاً، ثم بما يمكنها من التنافس على مصادر القوة الجديدة من خلال إبداع سياسات واستراتيجيات بديلة، وإلا فإن مصير كافة هذه المقارنات او المحاولات ان تنتهي الى فشل تام في فهم وتفسير أسباب التحولات والتغييرات الدولية ونتاجاتها، او التنبؤ بمسارات تلك التغييرات، وتأثيراتها، وانعكاساتها على ما يتوجب على الدول والفاعلين واللاعبين اتخاذه من تدابير.
لم تكن المشاهد التي نقلتها وسائل الاعلام المختلفة من أفغانستان عامة وعاصمتها كابول خاصة وتحديدًا مطارها الذي يحمل من باب سخرية القدر اسم حامد كرزائي، الرئيس الافغاني الذي وصل الحكم بعد الغزو الأميركي لأفغانستان، أي بعد احداث الحادي عشر من سبتمبر عام 2001، عادية بل كانت دراماتيكية وكان لسان حال المحتشدين هناك يقول: «جهنم الدول الغربية أفضل مما ينتظرنا هنا حتى وإن كانت جنة» حتى ان بعضهم فضَّل التعلق بحبال الريح وعجلات الطائرات المقلعة ليسقط الى موته المؤكد مفضلًا ذلك على الحياة في أفغانستان طالبان، وذلك انطلاقًا من تجربة مريرة عاشها الشعب الافغاني عامة والنساء الأفغانيات خاصة، ورغم ذلك فإن محاولة فهم الامور وفق «المقاربات القديمة» أي وفق مقارنة سياسية وتحليل سياسي تقليدي يعتمد وبنفس الوزن والاهتمام، محاولة الإجابة على الأسئلة الثلاثة المعتادة: ماذا حدث؟ لماذا حدث؟ وماذا سيحدث مستقبلًا؟ انما هو محاولة ستؤدي في أحسن الأحوال الى إجابة مجزوءة تعكس صورة غير كاملة للوقائع والاحداث وربما غير صحيحة وبالتالي ستقود الى استنتاجات غير صحيحة تنذر بمستقبل قد تتكرر فيه هذه الاحداث، مع تغير الزمان والمكان.
ما حدث في أفغانستان واضح للعيان وهو سيطرة طالبان على البلاد، اما السبب فهو انهيار مقومات الدولة التي أقيمت بدعم أميركي اما ما سيحدث فإنه واضح ايضًا يشكل عودة أفغانستان الى عصر من الظلمة كانت بوادره واضحة منذ اللحظة التي تلت انتصار «طالبان» عبر اول اعلان رسمي لها ومفاده انها ستضمن حرية الجميع بمن فيهم النساء، وما تلاه من مسح لكافة صور السيدات من على واجهات المحال التجارية والقيود الأخرى التي فرضت على الإعلام والصحافة حتى الأجنبية منها، لكن ما سبق هو التعبير السطحي عما حدث لكن مخرجات الفهم الدقيق أي الحقيقة غير ذلك بل انها اكثر ايلامًا أجاد الرئيس الأميركي جو بايدن وصفها حين قال ان الولايات المتحدة قررت ان لا تخوض حروبًا من اجل شعوب لا تريد ان تحارب وتناضل للحصول على حقوقها، أي ان اميركا لن تقاتل من اجل غيرها.
النصف الثاني من أقوال بايدن هو الاهم واقصد: «شعوب لا تريد ان تحارب من أجل نفسها» وهو قول يؤكد لمن لم يتأكد بعد أن اميركا تيقنت اخيرًا من فشل محاولات فرض الديمقراطية او نقل بشرى الديمقراطية الى شعوب الشرق خاصة والعالم الثالث عامة، وهذا ما يتعلق بأميركا، فتجربتها وتجربة الناتو خلال الثلاثين عاما الأخيرة بدءا من حرب الخليج الأولى ثم الثانية ثم الربيع العربي هي تجربة شديدة الهشاشة، حيث لم يستطع الناتو وأمريكا بناء دولة مدنية وديمقراطية في العراق او أفغانستان لها أذرع عسكرية ومدنية، وبالتالي فإن تصريحات بايدن تقول ان بلاده تفهم اليوم انه لا يمكن فرض الديمقراطية من الخارج على بلد آخر، بل انه يمكن فقط رعاية الديمقراطية وتعزيز آدائها اذا تواجدت أساسًا، كما حدث مثلًا بعد الحرب الأهلية في يوغسلافيا التي انتهت الى تفتت البلاد، ولكن الى دول وكيانات سياسية ديمقراطية بشكل أو بآخر، بعكس ما حدث في معظم بل كل دول الربيع العربي، لكن الأسوأ هو النصف الثاني من هذه المعادلة، وهو ان الشعوب لا تريد النضال من أجل الديمقراطية والتغيير (الممارسة الفعلية) رغم مطالبتها الدائمة بالديمقراطية (الشعار والتصريحات) وهنا مربط الفرس، وسبب الخلل فالشعوب الشرقية عامة ودول العالم الثالث خاصة كثيرًا ما تجيد الشعار وتفشل عند الممارسة، سواء كان ذلك الممارسة الديمقراطية او الانتخابية او ممارسة ميزات التطور التكنولوجي والاجتماعي، خاصة واننا في الشرق والعالم الثالث كثيرًا ما نخلط بين النظام الديمقراطي فعلًا وبين نتائجه المتوقعة أو المتخيلة، حيث اهتمت وتهتم العديد من القوى السياسية بما تريد تحقيقه من غايات، بدلا من الاهتمام بمبادئ وتفاصيل النظام السياسي الذي يمكن أن يحقق هذه الغايات، فعلى سبيل المثال كان من أوجه إخفاق القوى الاحتجاجية الشبابية التي قادت عمليات التعبئة في ثورات 2011 انها اكتفت بمطالبة الآخرين بتنفيذ مطالب الثورات من حرية وكرامة وعدالة اجتماعية، دون ان تهتم بامتلاك او تطوير القدرات الفكرية والتنظيمية للوصول إلى السلطة أو المشاركة فيها أثناء المراحل الانتقالية أما بعض القوى الإسلامية فكان اهتمامها الأساسي مستمدا من خوفها من أي نتائج محتملة لبرلمان حر قد تؤدي الى سن قوانين منها ما يخالف الشريعة، وهناك قوى خافت من أن تؤدي سيطرة أحزاب معينة على البرلمان إلى اقتصاد جديد يعمل لصالح الأغلبية ويسحق غالبية فئات المجتمع، ناهيك عن ان العالم الثالث يتجاهل المعالم والمركبات الرئيسية للديمقراطية كنظام للحكم وهي سيادة المؤسسات المنتخبة على غيرها من المؤسسات غير المنتخبة، وان سيادة الشعب والمؤسسات المنتخبة ليست سيادة مطلقة، لأن هناك مبدأ «حكم القانون»، إضافة الى فكرة المواطنة ومساواة الجميع أفرادا وجماعات في التمتع بالحقوق والحريات والالتزام بالواجبات، دون تمييز على أسس عرقية أو دينية أو مناطقية أو لغوية وبالتالي تمكين المجتمع والشعب من المشاركة السياسية والعمل العام عبر سبل مختلفة دون قيود، عدا تلك التي ترد في الدستور والقانون لتنظيم المشاركة وليس تقييدها، وهذا ما لا يتم في العالم الثالث والمنطقة العربية باستثناء تجربة فريدة ورائدة هي التجربة الأردنية التي تشكل نموذجًا بارزًا لمملكة أردنية هاشمية يقودها الملك عبدالله الثاني تعيش حالة ديمقراطية برلمانية صحية ورائدة، أي اننا في الشرق وبعض دول العالم الثالث لا نفهم الديمقراطية ولا نستوعب معناها وما تلزمنا به من تعددية وحرية فكر وقبول بوجود ضوابط تحكم الأغلبية (الدينية او السياسية او المذهبية والجندرية) قبل الأقلية أي اننا نريد الديمقراطية» جاهزة ومتوفرة مزينة بورود» ولا نريد المحاربة من اجل تحقيقها وتحويلها الى فكر وممارسة، بل نريدها شعارًا غوغائيًا او ان يمن علينا الغرب بها، لتكون ديمقراطية تفرض بمقاسات غربية على دولة شرقية ليكون مصيرها الفشل وبئس المصير وتفتيت الدولة واعادتها الى عصور غابرة من الفوضى والظلمات والاستبداد والتناحر، وهذه قضية تختلف وتتنوع أسبابها ومنها بخلاف الغرب تعدد انتماءاتنا، فهي فئوية دينية ومذهبية وعائلية وحمائلية وسياسية وجندرية تحكمها اعتبارات الأنا وليس اعتبارات «نحن» واعتبارات تاريخية يعتبرها معظمنا « درعاً واقيًا ومصدر قوة وتأثير» اما الاعتبارات المدنية الجماعية وهي الأساس في الديمقراطية فإنها تأتي في المراتب الأخيرة او بعدها.
هذا ما يحدث مؤخرًا ايضًا في اسرائيل وهو ما تعبر عنه تصريحات الوزيرة السابقة من الليكود ميري ريغف وهي تصريحات لا تعتبر أقل خطورة من حيث ابعادها الحقيقية عن رفض الشرق والعالم الثالث للديمقراطية او رفضه البذل من اجلها او رغبته في استخدامها لأهداف ضيقة، فريغف بتصريحاتها تعترف اليوم ان اليهود الشرقيين يتنازلون عن الديمقراطية طوعًا لسبب واحد ووحيد وهو انها لا تخدم مصالحهم ولا تضمن لهم مسبقًا وبشكل مفروغ منه دون اعتبار للمؤهلات، الوصول الى مواقع التأثير واتخاذ القرار في إسرائيل (ما يذكرنا بقولها الشهير حول هيئة البث العام: «ما الفائدة من هيئة البث اذا كنا في اليمين والليكود لا نسيطر عليها ولا تخدمنا) وذلك ليس غريبًا فريغف ومن يلوح براية «الشبح الطائفي» في إسرائيل هم جزء من اليهود الشرقيين الذين تعود أكثريتهم، إلى بلاد المغرب والجزائر ومصر والعراق وإيران والدول العربية وهي بلاد تعتبر جزءاً من العالم الثالث، يفتقر معظمها إن لم يكن كلها الى التقاليد الديمقراطية، يشكلون قرابة 50 % من مجموع السكان في إسرائيل على الأقل، وهي تصريحات ملخصها ان ما يحرك اليهود الشرقيين هو اعتبار دولة إسرائيل، منذ اقامتها ورغم 44 عامًا شبه متتالية من حكم اليمين والليكود، دولة تميز ضد كل ما هو غير أبيض أشكنازي، حيث إن الفكرة الصهيونية ظهرت في أوروبا بين اليهود لأشكناز ولم تكن هناك رابطة حقيقية بينهم وبين «اليهود الشرقيين»، وبالتالي عندما تم بناء دولة إسرائيل كانت الطبقة الحاكمة والمسيطرة يهودية أشكنازية بامتياز، لكن الصدمة لليهود الشرقيين هي أن الحال لم يتغير، فريغف تقول ان كل رؤساء الوزراء الإسرائيليين من البيض الأشكناز، وهذه حقيقة لكنها لا تكتفي بها بل انها تواصل الحديث لتصل حد التخلي عن الديمقراطية عائدة الى انتماءات ضيقة مذهبية وطائفية ودينية فهي تقول انها تعتبر نفسها يهودية ثم إسرائيلية وأخيرًا ديمقراطية وانها تعبر بقولها هذا عن توجهات مؤيديها وقاعدتها الانتخابية، ناهيك عن انها الاعتراف الصريح بفشل فكرة «بوتقة الصهر» وهو الشعار الذي رفعه دافيد بن غوريون حيث خشي أن تؤدي التباينات الثقافية والاجتماعية إلى حالة من الاستقطاب والصراع الإثني بين الشرقيين والغربيين، حتى انه قال إن ما يحدث هو تجمع لقبائل مختلفة ومتباعدة، والأصح أنه تجمع لقطع ممزقة لا تجانس بينها، وجمعهم معا في بقعة أرض واحدة سيبرز الاختلافات والفجوات بينهم، فبلور ما عرف باستراتيجية «بوتقة الانصهار».
الدستور