قبل الإقلاع ... بعد الهبوط
مطار الملكة علياء "معجوق" هذه الأيام...فجأة تهبط طائراتان أو ثلاث طائرات...هذا الرقم وحده، يكفي لإثارة الجلبة في مطار اعتاد الحركة الرتيبة والهادئة، وموظفين اعتادوا السير "الهوينا"...معظم القادمين من الخليج والمغتربات، هم أردنيون عائدون لقضاء إجازات الصيف ورمضان و"العيد الصغير"، التي صادف أنها تلازمت مع بعضها البعض...الجميع في حالة استنفار...الجميع من سائق التكسي حتى موظف الكاونتر، يجأر بالشكوى.
"عجقة" كهذه، كفيلة بإخراج "أسوأ" ما في دواخلنا...الواسطة والمحسوبية "تضرب أطنابها"...كل موظف أو عتّال، يستطيع أن يعبث بالدور، وأن يقدم فلانا ويؤخر علانا ...رأيت أناساً يخرجون من الطابور للالتحاق بـ"الوسيط" الذي هو بالمناسبة، المسؤول عن حفظ الدور والنظام...رأيت موظفين ، يتقدمون مسافرين حاملين جوازت سفرهم، ويتنقلون على عجل من "كاونتر" إلى آخر...رأيت مسافرين "فهلويين"، ما أن يدلفوا بوابة مبنى المغادرين، حتى تبدأ عندهم رحلة البحث عن أقصر الطرق لتفادي الاصطفاف بالطابور الطويل، وغالباً ما يكون لهم ما أرادوا...رأيت "أشياء" تندس في الجيوب والأكف، وإمارات الرضا ترتسم على الوجوه المنشرحة والأكتاف التي تهتز تعبيرا عن الرضا والشكر.
فجأة يخرج عليك من يصدح بالنداء: ركاب بيروت...ركاب الكويت...ركاب اسطنبول...لا أحد يسأل عن رحلتك، فأنت تأتي قبل موعد الإقلاع بساعتين على الأقل، عملاً بالقوانين المرعية...ركاب هذه الطائرات – بعضهم بالطبع – يأتي في نصف الساعة الأخير...ولم لا يفعل ذلك، طالما أن هناك من سيكافئه ويخرجه من الطابور ويقدمه على جميع المسافرين الذين جاؤوا في الوقت المحدد أو قبله بقليل...من الآن فصاعداً، أنصح الأردنيين جميعاً، بعدم الاستجابة للتعليمات، والذهاب إلى المطار قبل اقل من ساعة من زمن الإقلاع...هذا هو الوقت المناسب لتفادي الطوابير ومرارة الانتظار...هناك من سيتلقفك فور اجتيازك حاجز التفتيش، هناك من يناديك، ولم يبق سوى أن "يزعك" عليك باسمك الثلاثي...والحجة دائماً، أن طائرتك على وشك الإقلاع ؟!.
وأنت في ذروة الانتظار المضني والممل، يظهر شاب يرتدي قميصا أبيض وربطة عنق...يحمل جواز سفر لمسافر و"يجر" حقيبته...بخفة يقفز من فوق الجميع...مهمته تسريع إجراءات سفر "العميل"...لقد تقاضى منه للتو مبلغ عشرين دينارا ...هذا هو ثمن التحية الأردنية "يا مرحبا"...لكن هذا الموظف لا يفعل شيئا سوى قيادة "الزبون" لتخطي دورك والاعتداء على حقك...أنت لا تريد أن تدفع المبلغ المرقوم، إذن عليك أن تقبل ببيعه "عنوة" لمن يدفع، ويأتي للاصطفاف أمامك ويتقدم عليك...هذا لا يحدث في أي مكان محترم في العالم...هذا يحدث في مطار الملكة علياء الدولي.
أنظر إلى "العتالين" وهم يتقافزون فوق "القشاط المتحرك" يبحثون عن حقيبة لهذا المسؤول أو لذاك المسافر مقابل مبلغ من المال...كل الحقائب الأخرى يمكنها أن تنتظر، أو حتى أن يلقى بها خارج "القشاط"، المهم أن تظهر حقيبة المسؤول أو المسافر "المتميز" فوراً ومن دون تأخير..أنت لا تستطيع أن تتحدث مع هؤلاء، لكأنهم عصابة استوطنت المكان، وبات لها فيه حقوق ملكية، أنت الضيف عليهم، وأنت ضيف ثقيل ما لم تخرج من جيبك ما يقنع أحدهم بخدمتك، عندها تصبح "السيّد" المطاع إلى أن تصل "التفتيش" والجمرك.
في مطار هيثرو على سبيل المثال، حيث عدد الطائرات والرحلات يكاد يقارب عدد المسافرين من مطار الملكة علياء...لا شيء من هذا يحدث أبداً...لا أحد ينادي على أحد...من يتأخر عن الرحلة عليه أن يتحمل وزر كسله واستخفافه بالوقت...لا "مرحبا" ولا "welcome"، الجميع سواسية كأسنان المشط...لكل دوره الذين يتعين عليه الاصطفاف فيه، نصف ساعة أو حتى ساعة كاملة...الطابور هناك أكثر طولاً وأقل إزعاجاً...لن يساروك القلق بأن أحداً سيقفز من فوق كتفيك أو وراء ظهرك...لن يشتري أحد دورك بعشرين جنيه استرليني تحت شعار "مرحبا" أو "welcome"...عندما يأتي دورك، سوف تتم معاملتك من دون تدخلات جانبية ضارة أو مزعجة...هيثرو ليس معجزة القرن العشرين...جميع مطارات العالم تعمل هكذا، إلا عندنا نحن في الأردن وأكناف الأردن من دول تشبهنا وتنافسنا على سلم التخلف.
على مقربة من مباني المطار الاسمنتية، ثمة صرح زجاجي يشيد بسرعة لافتة...إنه المطار الجديد أو "التوسعة الجديدة" للمطار القديم...كل شيء يعطي الانطباع بأننا أمام صرح معماري حداثي، أو "ما بعد حداثي"...المبنى شفاف، بل وشفاف جداً، على غير ما عهدناه من عقارات حكومية وسياسات وإجراءات...لكن السؤال الذي ما انفك يساورني هو: هل ستقف الحداثة عن حدود البناء والإعمار...ماذا عن الإدارة والبشر ؟...هل سيليقون بحداثة المبنى الجديد ويرتقون إلى مستواها وسويتها؟...أمام أننا سنكون مشهدا مقتطعا من مسلسل "جواهر"، حيث يصعب الفصل بين رنين هواتف "الثريا" وصوت "الربابة"...وحيث سيارات المرسيدس والرانج روفر تصطف إلى جوار الجمال والماشية ؟!(الدستور)