عن العراق .. «الوطن» و«الساحة»
منذ أن بدا أن واشنطن عاقدة العزم على إبقاء قواتها في العراق إلى ما بعد انتهاء المهلة المتفق عليها بين حكومتي البلدين، حتى ظهر إلى السطح، حراك إيراني/ شيعي، سياسي وعسكري، مناهض لهذا التوجه... سياسياً قاد التيار الصدري هذا الحراك، وعسكرياً، نفذت جماعات ومجاميع و»ألوية» شيعية العمليات التي وقعت مؤخراً، حتى أن شهر حزيران الفائت، عُدّ من أكثر الشهور اضطراباً في العراق، ومنذ أمد بعيد.
واشنطن تتابع بقلق هذا التطور.. مصادرها تقول أن إيران التي أوقفت تسليح جماعات المقاومة، السنيّة منها والشيعية، منذ أواخر العام 2008، عاودت تقديم السلاح المتطور لهذا الجماعات، من صواريخ فعّالة مضادة للدروع، إلى «العبوات الجانبية» التي اشتهر بها حزب الله اللبناني وبرع، إلى غير ما تحتاجه هذه المجموعات لتوجيه ضربات موجعة بالوجود الأمريكي في العراق، لإبقائه تحت الضغط، تمهيداً لتسريع انسحابه.
على الجبهة السنيّة، ثمة معلومات أخرى تؤكد أن طهران عاودت تزويد بعض الجماعات السنّية المقاومة بالدعم والسلاح، وفي هذا السياق، يتردد أن طهران رفعت القيود المفروضة على حركة قيادات القاعدة وكوادرها المتواجدين على الأراضي الإيرانية، في إشارة لا تخفى دلالاتها وأهدافها على أحد، وفي هذا التوقيت بالذات، الأمر الذي ينذر بأن العراق مقبل على صيف وخريف ربما يكونان ساخنين، بل وساخنين جداً.
لقد استخدمت إيران «سلاح المقاومة» في لعبتها المزدوجة في العراق، بصورة ناجعة.. وها هي تواصل استخدام اللعبة ذاتها، وبالطريقة ذاتها، مع فارق «بسيط»، أنها أدخلت بعداً مذهبياً جديداً على هذه اللعبة: «المقاومة الشيعية».. فمن خلال «ورقة المقاومة» نجحت إيران في تكسير موجات الهجوم والاندفاعة الأمريكية الهوجاء التي أعقبت احتلال العراق السهل وسقوط بغداد السريع، لقد جعلته احتلالاً مكلفاً للغاية، وبدل أن يكون جسراً لعبور النفوذ الأمريكي في المنطقة، تحوّل إلى سدّ في وجهه أحلامها واستراتيجياتها.. وأصبح وبالاً (سياسياً) على الحزب الجمهوري والمحافظين الجدد الذين شقّوا طرقه ورفعوا لواءه.. ومن خلال «العملية السياسية» التي «هندستها» واشنطن ووضعت قواعدها وأسسها، نجحت إيران في إيصال أنصارها وعملائها إلى سدة الحكم في العراق، ومن دون أي جهد أو عناء يذكران.. وفي كل المجالات وعلى مختلف المسارات، كانت واشنطن تصب القمح صافياً في طاحونة إيران وحلفائها.
اليوم، لا تبدو الصورة مختلفة على الإطلاق.. إيران تستأنف اللعبة ذاتها، وتحصد المزيد من المكاسب.. أمس شهدنا «موسم» التوقيع على جملة من اتفاقيات «التعاون» مع العراق، والتي تكرّس حضور إيران الطاغي والفاعل فيه، في الوقت الذي تعمل فيه «الأجهزة» الإيرانية على تصعيد الفعل «المقاوم» للاحتلال الأمريكي للعراق.. وتخوض دبلوماسيتها، ومن مكتب المالكي بالذات، مفاوضات شاقة مع الدبلوماسيين الأمريكيين، لا من موقع «الندية» بل من موقع «اليد العليا».
إن المتأمل في المشهد العراقي يلحظ مفارقة «فاقعة» بلا شك.. فالولايات المتحدة خاضت حرباً ضروساً، أنفقت خلالها مئات المليارات من الدولارات وقدمت ألوف القتلى والجرحى، من أجل «نشر الديمقراطية في العراق» ومن خلاله إلى بقية دول المنطقة ومجتمعاتها.. ها هي المنطقة ببساطة تتحول نحو الديمقراطية، من دون تدخل واشنطن أو إسنادها، وسيأتي اليوم الذي ستلتحق فيه هذه المنطقة بقطار الديمقراطية، ما عدا العراق، الذي يبدو «مكتوباً» عليه أن يراوح ما بين ديكتاتورية «البعث» وديكتاتورية «مُجتثية» من أحزاب دينية حاكمة ومتحكمة.. بدل أن يكون العراق «واحة الديمقراطية» في صحراء الشرق الأوسط القاحلة، ونموذجها الملهم والجاذب، ها هو يقف في آخر «طابور» الدول والمجتمعات المرشحة للإلتحاق بقطار الحرية والديمقراطية.
وفيما الشعوب العربية تصنع نماذجها الخاصة للديمقراطية، يقف العراق، عراق ما بعد صدام حسين، في مقدمة صفوف القوى والدول المناهضة لـ»ربيع العرب»، وها هم الإصلاحيون العراقيون، وشباب التغيير وصبايا الإصلاح في العراق، يتعرضون للملاحقة الشرسة على يد «رسل الديمقراطية الجديدة»، الذين لم يتورّعوا عن امتطاء الدبابات الأمريكية لإحداث التغيير، فإذا بهم يمتطونها ثانية لمنعه ومحاصرته وملاحقة الداعين له والمبشرين به.
«العراق الوطن»، يتجه لأن يصبح «العراق الساحة».. ساحة تصفية الحسابات الإقليمية والدولية.. ساحة حسم الخلافات بين طهران وواشنطن.. صندوق بريد دامٍ بين القوتين العظميين إقليمياً ودولياً.. ودائماً على حساب مصالحه العليا ومصالح أبنائه وبناته.. دائما على حساب مستقبلهم وأمنهم ورفاههم وحريتهم وكبريائهم.(الدستور)