الجامعات والعصر المعرفي
يقول «ماكلوهان» صاحب نظرية (الحتمية التكنولوجية): «الوسيط يغيرنا ويؤثر على البنية الفردية والاجتماعية، لأننا نتفاعل معه مراراً وتكراراً حتى يصبح جزءًا من أنفسنا، فنحن اليوم لا نستطيع تخيل حياتنا بلا الهواتف الذكية والإنترنت، لأن كل وسيط يدفعنا لاستخدام حواس معينة ليخلق عادة نداوم على ممارستها، إن الانخراط بشكل يومي في أحد الوسائط يوماً بعد يوم يحفز إحدى الحواس لدينا لاستخدامها أكثر من غيرها، فالوسيط السمعي كالأغاني مثلاً يحفز حاسة السمع أكثر من حاسة النظر إذا تم استخدامها بشكل أكبر، تمامًا مثل الضرير حيث تصبح حاسة السمع متفوقة بشكل ملحوظ، وعلى الصعيد الاجتماعي فالمجتمع يصاغ بحسب الوسيط الأكثر انتشاراً بين أفراده».
ينطلق ماكلوهان من مقولته الشهيرة «الوسيلة هي الرسالة» من الفرضيات التالية:
يَعتبِر أنَ وسائل الاتصال هي امتداد لحواس الإنسان: أي أنَ الناس يتكيفون مع ظروف البيئة في كل عصر من خلال استخدام حواس معينة ذات صلة بنوع الوسيلة وطريقة عرضها، لذلك قسم مراحل تطور الاتصال الى مرحلة الكتابة، ثم مرحلة الطباعة، وبعدها مراحل الوسائل الالكترونية، وهذه الأيام بدأنا نسمع عن مرحلة الميتافيرس.
يعني بمقولته الوسيلة هي الرسالة أن طبيعة كل وسيلة وليس مضمونها هو الأساس في تشكيل المجتمعات، على اعتبار أنّ لكل وسيلة جمهورها الخاص الذي يفيد ما عرضته الوسيلة وخصائصها ومميزاتها.
هذه الحتمية التكنولوجية تؤكّد أن وسائل الإعلام التي يستخدمها المجتمع أو يضطر إلى استخدامها سوف تحدد طبيعة هذا المجتمع، وكيفية تعاطيه مع مشاكله وعلاجه لها. وهذا يضع الجامعات امام التحدي الأكبر للدور الذي يفرضه عليها مجتمع المعرفة وهو التوظيف المكثف لتكنولوجيا المعلومات والاتصالات، والتحول من استهلاك المعرفة إلى إنتاجها والتحول إلى مجتمعات التعلم، والتحول من العزلة عن المحيط المجتمعي إلى الإسهام الفاعل في بناء مجتمع المعرفة، وأصبح التعليم التقليدي غير ملائم لإعداد أجيال قادرة على المنافسة في عصر المعرفة، وحل محله أساليب أخرى تعتمد على الاستنتاج والمنطق، واستخدام أساليب المحاكاة والواقع الافتراضي والتعليم التفاعلي والتعليم المبرمج، وهذه الأساليب لا يمكن تحقيقها بالطرق التعليمية التقليدية وإنما باستخدام التكنولوجيا والتحول إلى التعليم الرقمي الذي يهدف إلى خلق أجيال مسلحة بالوسائل والمهارات المطلوبة للولوج إلى العصر المعرفي.
ولما كانت الدول المتقدمة تسعى إلى تطوير جامعاتها، لتجعل منها قوة أكثر تأثيرا في بناء مجتمع المعرفة، فإن جامعاتنا بحاجة إلى مثل هذا التطوير، لكي يتم سد الفجوة التي تفصلنا عن الدول المتقدمة، ولكي ندخل حلبة التنافس المعرفي من أجل تقدم مجتمعنا، وتحقيق مكانة أفضل بين الدول، وهنا يظهر السؤال: كيف يسهم التحول الرقمي في الجامعات في تحقيق مجتمع المعرفة؟ وللإجابة عن ذلك لا بد من الإجابة عن التساؤلات الآتية:
1. ما هو مفهوم مجتمع المعرفة، وأبعاده المختلفة؟
2. ما هو مفهوم التحول الرقمي، وفلسفته، ونماذجه، وأسس بنائه؟
3. ما هي الجهود التي بذلت للتحول الرقمي في الجامعات الاردنية؟
4. ما هي متطلبات التحول الرقمي في الجامعات لتحقيق مجتمع المعرفة؟
وماذا بعد:
لكيلا نستمر في إعادة إنتاج الفراغ نقول: المشكلة التي نواجهها الآن هي أنّ اللحظة التي يعيشها العالم لن تسمح إطلاقا بأي قدر من الخمول والتراخي، لذا علينا أن نعيد ترتيب أوراقنا بحثا عن آفاق مغايرة. العملية تحتاج إلى جد واجتهاد ومثابرة وعمل، لأنّ مجتمع المعرفة لا يرحم، ومن يتأخر عن الركب سينساه الزمن إلى الأبد، والأمر بكل أبعاده وخلفياته يحتاج إلى دراسات وإمكانيات ووسائل وإرادة قوية من جميع مكونات المجتمع، سلطة ومؤسسات عامة وخاصة وشعب. وعيلنا التذكر الدائم بأن المستقبل للمجتمعات التي ستشارك في توظيف وإنتاج المعرفة بكفاءة في شتى مناحي الحياة، فالمعرفة ثروة وقوة في آن واحد.
نحن أمام فرصة وتحدٍ في الوقت نفسه، والنتيجة مرتبطة بما سنفعله الآن وفي المستقبل، والمستقبل ليس مكانا نذهب إليه، بل خيار نصنعه بأنفسنا اعتمادا على كيفية استثمارنا لطاقاتنا ومدى قدرتنا على الاستفادة منها ومن تجارب الآخرين.
* جامعة العلوم والتكنولوجيا الاردنية
الدستور