عند جبل الياسمين
المؤتمرات مهمة، والأوراق التي تقدم فيها، قد تتفاوت في قيمتها العلمية. جميعها مهمة، فهي عصارة أفكار الباحثين، ولكني لا أريد أن أحدثكم عن أوراق مئوية صورة الأردن رغم أنها تستحق أكثر من مقالة، وإنما سأقص عليكم بعض مشاهداتي من خلف كواليسه، فهي عندي لا تقل أهمية عن المؤتمر نفسه.
أمس، وبعد انتهاء الجلسة الأولى التي قدمت فيها ورقتي عن «صورة جلالة الملك عبد الله في الإعلام وفي الأذهان»، رافقت ضيفيّ، وضيفي المؤتمر، الدكتور عبد الخالق عبد الله، أستاذ العلوم السياسية في جامعة الإمارات، والدكتور ظافر العاني، السياسي العراقي المعروف، ولم يفتني أن أختطف رئيسة الجلسة التي أزعجتني صرامتها بالالتزام في الوقت، وكأنها عقرب ساعة، الدكتورة مارسيل جوينات، رئيسة قسم الصحافة والإعلام في جامعة اليرموك حيث تخرجت فيها يوماً ما، وبرفقة صديق العمر الأستاذ فيصل الشياب، اصطحبتهم جميعاً دون أن أترك لهم خيار القبول أو الرفض، إلى جبل اللويبدة الذي عاصرَت قممه أحداثاً تاريخية كبرى في حياة عمان.
عملت مرشداً سياحياً لجبل أعشق معالمه، ولمقهى شهد بداية أحداث روايتي القادمة «وسط البلد». هنا دوار الحاووز. هنا في هذا الموقع كان هناك خزاناً يوزع المياه على أطراف الجبل ووسط البلد، وهذا بيت سوسن تفاحة واحدة من أوائل الإعلاميات في التلفزيون الأردني. وهذا بيت يعيش الذي جيء بحجارته الوردية من القدس الشريف. ذاك جامع السعدي، واحد من أقدم مساجد الجبل. هذه الرائحة التي تتنسمون عبقها، هي رائحة الياسمين الذي ينتشر في كل أرجاء الجبل، حتى أطلقنا عليه اسم «جبل الياسمين». هذا هو «أبو محجوب» الذي استوحى منه الفنان عماد حجاج شخصية «أبو محجوب». في هذه الزاوية، أقدم مكتب بريد في اللويبدة عندما كانت الرسائل تصل بكل دهشتها إلى البيوت عبر ساع يأتي على دراجته الهوائية، وحقيبته الجلدية التي تحمل أسراراً وأشواقاً لا حصر لها. هل تذكرون رواية «ساعي البريد» لأنطونيو سكارميتا، وحكايته مع بابلو نيرودا؟ هل تذكرون كيف شرح بابلو لساعي البريد «ماريو خمينيث» معنى عبارة «وهلم جرا».. في هذا الجبل آلاف «هلم جرا». أعني إلى آخره التي لا تحتاج إلى شرح.
وعلى الرصيف الآخر من المقهى، جلس كهل سقطت كل أسنانه إلا واحدا،ً حظي بعنايته كبقية من أثر في زمن غابر. دعوناه إلى جلستنا ليسمعنا شيئاً مما يحفظ. هالنا من الرجل وهو يغني، أنه يكاد يبكي معتذراً. قال: لا يجيد الغناء عندما أتذكر حبيبتي.
هذا هو جبل الياسمين الذي يجعل الكهول يغنون ويبكون، لأن كل ما فيه، كل ما فيه، يوحي بالحب، حتى لمن بقي في فمه سِنٌ واحدة.
الدستور