عبقرية المكان
ما كان يمكن أن أغادر البلاد دون تلبية دعوة رئيس التحرير المسؤول في "الدستور" الأخ مصطفى الريالات لتناول الإفطار في مطعم "العمد". من يرفض أن يلبي مثل هذه الدعوة الكريمة، ويجلس حيثما جلس وصفي التل، وهزاع المجالي، وشفيق ارشيدات، وحمد الفرحان، وصلاح أبو زيد، وحيدر محمود، ناهيك أنني لا أستطيع أن أقاوم رغبة مرافقة عميد الدار معالي محمد داودية، ثم من هذا الذي يرفض أكل الكباب عند الصباح، ومن لا يتلهف لإلقاء الصباح على جبال السلط وحجارتها الوردية وأهلها الكرام.
وفي المطعم دار حديث حول الذائقة، والعلاقة بين اللقمة الطيبة والمكان. رويت لأصحابي حكاية كعك القدس. عندما سُئل موسى أبو سنينة، الخليلي الذي يمتلك مخبزاً لكعك القدس في القدس القديمة، ومخبزاً يعد القدرة الخليلية في وسط الخليل، سئل: لماذا لا تفتح مخبزاً للكعك في الخليل؟ فأجاب باللهجة الخليلية، وبالمطّة الخليلية المعروفة: "بُزبُطش". هل تعتقدون أن كعك القدس يأخذ طعمه من يد الصانع، كعك القدس شهي لهذه الدرجة لأنه يأخذ طعمه من هواء القدس، وقِدرة الخليل تأخذ طعمها من رائحة حجارة الخليل، "كعك القدس بُزبُطش في الخليل، والقدرة الخليلية بتُزبُطش في القدس.
هل هناك علاقة بين المكان وبين طعم الطعام؟ نعم. أنا أؤكد لكم أن نعم. كباب "العمد" لا طعم له خارج السلط، بل ربما يفقد طعمه إذا انتقل إلى شارع آخر. مطعم "هاشم" سيفقد روحه إذا خرج من وسط البلد. شقائق النعمان لا تُحرّك فيّ ساكناً إذا نبتت في المدينة. خبز الطابون "بُزبُطش" في عمان، وكنافة حبيبة في وسط البلد "على الواقف" أطيب من شارع المدينة المنورة. مثل هذه المأكولات تشبه طعم أكل الأم، لا أطيب في الكون من لقمة تعدها لك أمك. لا تُخرجوا المطاعم من حضن أمهاتها.
صعدنا إلى مطل السلط. وقفنا ننظر في الأفق البعيد القريب إلى غور الأردن وسفوح فلسطين من على "عرقوب سوادا". استضافنا نشمي من شباب السلط هو المهندس المثنى بشير عربيات. موسوعة متنقلة، رجل علاقات عامة من الطراز الأول. بادر ومجموعة من الشباب إلى تأسيس مطعم على رأس المطل. هناك ستقول دون إيعاز: "أبيش أحلى من السلط".
عُدت إلى عمان للسلام على الشاعر حيدر محمود بصحبة ضيفنا الدكتور ظافر العاني، ومدير مكتب حيدر محمود السابق الصديق فيصل الشياب، فأتحفني الشاعر الكبير بقصة استأذنته في روايتها، وحيدر محمود حكاء، ولكنه لا يحكي "أي كلام". القصة حقيقية رواها له الراحل الطنطوري الدكتور محمود السمرة.
تقول الحكاية أن شاباً من طيرة حيفا، ترجّل مع خطيبته من أعلى جبل الكرمل إلى البحر. الموج لا يرحم. قذف بجنونه المياه إلى الشاطئ، فبلّل أرجل خطيبته. قال غاضباً مخاطباً البحر: والله لو فعلتها مرة ثانية "لأقوّس عليك". يبدو أن البحر استهان بكلام الطيراوي، فقذف بمياهه لتبلل الخطيبة، ويصل الماء إلى ركبتيها. رأى الرجل في ذلك اعتداء على عرضه. حمل مسدسه وأفرغ في رأس البحر وجسده سبع طلقات. رأى المشهد بعض شباب الطنطورة. رووا الحكاية لأهلهم، وقرروا أن يتجنبوا المرور في تلك المنطقة بجوار البحر، فإذا كان شباب الطيرة يقوسون البحر، فماذا يمكن أن يفعلوا لو اختلفوا مع أحد أبناء الطيرة.
ومنذ ذلك اليوم عُرف أبناء الطيرة - ومنهم حيدر محمود - بحميتهم، وأنهم مستعدون للمواجهة وإطلاق النار، حتى لو كان خصيمهم البحر.
الدستور