أم المدارس
عندما تجولت قبل أسبوع في حضرة مدرسة السلط الثانوية، أصابني دوار. تأملت حجارتها كما يتأمل المحبوب وجه حبيبته. أقف إلى جانب شجرة السرو المقابلة للمدخل الرئيسي، وأطل على السلط الأبية. قفزت أسئلة إلى رأسي وأنا أستحضر تاريخ المكان. استعدت وجوه وخطى المؤسسين الأوائل، وأبطال أشاوس. ملوك. رجالات سياسة. مناضلون. علماء. أدباء. شعراء. شهداء.
هنا وقف الملك عبد الله الأول ليضع حجر الأساس في الثاني عشر من أيار 1923. هنا وقف الملك ثانية لافتتاح المدرسة في الثاني عشر من كانون الأول عام 1925، بعد أن تم استخدام أكثر من بيت من بيوتات السلط الكريمة، كمقرات مؤقتة للمدرسة التي تأسست عام 1919، ويكون صبحي عبد الهادي أول مدير لها قبل تأسيس الإمارة.
وهنا تتلمذ على مقاعدها بطل معركة القدس عبد الله التل، والشهيد وصفي التل، ومريود التل، والدكتور سعيد التل، وإبراهيم زيد الكيلاني، وبهجت التلهوني، وسعد جمعة، وعبد اللطيف عربيات، ومصطفى غنيمات، وبهجت المحيسن، وسمير تادرس، وعلي خليفات، ومحمد رحاحلة، وعبد الرزاق رحاحلة، وعبد الله الخرابشة، ومحمد رسول الكيلاني، وحسن طويقات، وأحمد أبو رمان، وعبد الله النسور، وعبد السلام المجالي، وحسني فريز، وحكمت الساكت، وعبد الله زيد الكيلاني وعلي يوسف النسور، وسامح بطاينة، ونذير رشيد حفظه الله، الذي تكرم علي بتزويدي عبر الهاتف ببعض هذه الأسماء، وغيرها كثير.
حملت المدرسة أكثر من اسم في تاريخها، لكن المعنى كان واحداً، والتاريخ واحد، المكان واحد وإن اختلف الزمان، والمسيرة واحدة، من «المدرسة السلطانية»، إلى «السلط الأميرية»، إلى «مدرسة السلط التجهيزية»، إلى «مدرسة الحربي»، ثم «المدرسة الحزبية»، ثم «مدرسة التل»، إلى «مدرسة السلط الثانوية»، الاسم الذي استقرت عليه منذ عام 1938.
ظلت المدرسة بطابق واحد حتى عام 1956 عندما أمر الراحل الكبير الملك الحسين ببناء طابق ثان اكتمل العمل على إنجازه في عام واحد. تسع غرف إضافية وغرفة إدارية، ومرافق صحية.
تستعد المدرسة الآن لاستقبال سمو ولي العهد الأمير المحبوب الحسين بن عبد الله الثاني، لافتتاح مبنى جديد تم بناؤه بنفس الطراز، ونوع ولون الحجر الذي استخدمت فيه المباني التاريخية، لتستمر مسيرة الرعاية الهاشمية من عبد الله إلى عبد الله، لأم المدارس كما أسماها الشاعر حسني فريز في الثالث عشر من أيار في قصيدة ألقاها بين يدي الملك الحسين طيب الله ثراه في الاحتفال باليوبيل الذهبي للمدرسة قال فيها:
أم المدارس كم هنئت بظلها ولقنت أو لقنت حر مقال
قد أنجبت في نصف قرن نخبة في ساحة الشهداء والأبطال.
هذه هي مدرسة السلط الثانوية التي منحها الحسين الباني وسام الاستقلال من الدرجة الأولى، وقال فيها: فلست أعرف مدرسة ولا مؤسسة في بلدنا ارتبط تاريخها بتاريخ الوطن، واتصل استمرارها ببناء الدولة وتطورها، وأثر وجودها في نمو الأردن ورقيّه، كمدرسة السلط العريقة.
أتمنى على وزارة التربية والتعليم أن تسارع إلى إجراء أعمال صيانة وترميم، وضمان إدامة واستدامة للمدرسة ومرافقها، بما في ذلك «أباجورات» نوافذها، وحديقتها الخضراء التي تحتاج إلى عناية، وتجميل مداخلها، وبخاصة الكتل الإسمنتية المربعة الساندة إلى سقوف الملاعب، والأهم من ذلك من وجهة نظري، تحويل المدرسة إلى «نموذجية» بكل ما تحمله المفردة من معان، لضمان رفع سقف جودة مخرجاتها، وتميز خريجيها، لما تمثله من دلالات تتصل بتاريخ الدولة، وعزة أبنائها، وتراث الأردن الحضاري، ولارتباطها الوثيق بمئوية الدولة، وكونها الرافد الأول لقادة الوطن عبر مائة عام خلت.
أوجه رسالة هنا، إلى أستاذنا معالي الدكتور وجيه عويس، أن يصار إلى عقد مؤتمر سنوي متخصص، وورش عمل، تناقش شاناً من شؤون التعليم أو التعليم العالي، على هامش حفل التخريج السنوي لطلبة المدرسة، وأن يشارك في المؤتمر المقترح سنوياً، رجالات علم وتعليم ومعرفة من أقطار عربية مختلفة، كجزء من التسويق لمسيرة التعليم في الأردن، وتاريخ البلاد العريقة، ومجدها المشرّف..
الدستور