حقيبة «الإمام» و«محاسن» الصُّدَف
كنت أحلم في صباي - متأثراً بالقصص المرويّة والأفلام السينمائية والأغاني - أن أتسكع يوماً مع فتاة في شارع الحمراء. أن أصحبها عند مغيب الشمس إلى «ومبي»، أو «الهورس شو»، أو «دو باري»، أو حتى «المودكا» أو «الإكسبرس». أجلس معها حيث يناجي العاشق معشوقته، وحيث يجلس الفيتوري، وأبو ريشة. أنسي الحاج. ودرويش. الماغوط، والحيدري، إلى أن وجدت نفسي في انتظارها في بهو فندق بيروتي في الثالث عشر من كانون الأول عام 2018. كانت في قمة أناقتها وحيويتها، وكنت أنا كذلك. وصلنا الحمراء. كل شيء كان على ما يرام، إلا أنني كنت «غلطان بالنمرة، في شارع الحمرا». اصطحبت امرأة ليست حنطية. عندها أولاد، و»جوز بيسوى بلاد». امرأة كسرت العقد السابع من عمرها المديد، وأنا شقيق لم تلده أمها، وأصغرها بعقد من الزمن، لكني والحال هذه، كنت في قمة السعادة. أسير إلى جانب «زهرة» من زهرات بلادي، تخطو إلى جانبي كشجرة سنديان تسير على قدمين.
كل شيء على ما يرام، بما في ذلك رفرفة الحمام الباحث عن رزقه متنقلاً من نافذة إلى أخرى من بيوت شارع مسالم يمتد من شرق بيروت إلى غربها، وبما في ذلك الحب الذي جمعنا. لم نخالف تقاليد الحمراء في سنن الحب، لكنه هذه المرة، حب الشقيق إلى شقيقته، والأخت إلى أخيها. الحب على طريقة الفرسان. العشق بروح النشامى، وعطر النشميات وأنفتهن. وصلنا المكان. كنا قد بدأنا الحديث بعد مراسم افتتاح مركز الإعلاميات العربيات - فرع لبنان. كانت منتشية بفعل حدث عزز رسالتها وحقق انتشارها. المرأة هي هدفها. رفعة المرأة. مشاركتها في العمل العام. النهضة بدورها في العمل الإعلامي. واصلت الحديث. كم كانت حكاءة في تلك الليلة. جلستُ كتلميذ أستمع إلى بوحها. امتد ليصل إلى القدس الشريف حيث خرجت مع أبيها إلى عمان عام 1952 وهي في الرابعة من عمرها المديد.
لم تنس المرأة أنها ولدت سنة النكبة، لم تنس صباها يوم كان والدها يمسكها من يدها ويصحبها إلى محل فيليب عقروق لتفصيل طربوش لرأسه. كان يصحب أحياناً صديقه إميل قسطندي حداد إلى دوار الساعة مقابل بيت البشارات حتى يفصلا طرابيشاً حمراء. تعلّقت الفتاة بطربوش أبيها، وبلونه، وشراشيبه. رأت فيه رمزاً للعزة والأنفة. سيارة والدها حمراء اللون أيضاً. الأحداث التي شهدتها منذ ولدت، كانت مصبوغة باللون الأحمر. الضوء الأحمر والخطوط الحمراء هي الأعم الأشمل في مسيرتها. رقم لوحة سيارة أبيها «100». كان له دلالة غُرِست في وجدانها. لم تعد تقبل برقم أقل. حدثتني عن والدها كثيراً. أسهبت. أطنبت. استأنفت. لم تتوقف. كان يصحبني إلى البريد في وسط البلد لفتح صندوقنا رقم 36 قبل أن يقطع بي الشارع لدعوتي على الغداء في مطاعم الأردن. يأخذني إلى محل تيسير قبعة في شارع السلط لشراء الخضروات. كنت أتسكع في اللويبدة مع صديقاتي. ألعب مع أولاد الخوري، وسبانخ، والبيات، وفاشة.
لم تترك محاسن - هذا هو اسم «فتاتي» السبعينية في شارع الحمراء - لم تترك مجالاً للحديث. قاطعتها. حدثيني عن أمك. كنت قد اكتفيت بقصصها عن والدها. لم تلتفت إلي. واصلت الحديث عن معشوقٍ علمها معاني الكرامة والكرم. المنافس الآخر لوالدها كان الجبل؛ جبل اللويبدة. كأن في حياتها جبلان: والدها واللويبدة. تأثرت بمفاهيم الرحمة والمحبة والجمال في حضن الجبل، وحضن والدها. عشعشت في الذاكرة رائحة زهر الليمون. الياسمين. أشجار الخروب، صوت الخادمة السريلانكية في بيت كوثر النشاشيبي الذي يصل إلى الشارع العام. صوت العصافير. رائحة الأراجيل. الفلافل بالطحينية من «أبو محجوب». وأشجار الأسكدنيا، والخوخ، والتين، والتوت، وكرهها للنبّوت. امرأة متسامحة. متصالحة. وحدوية. أردنية حرة. إنها امرأة عنيدة. والله إنها عنيدة، لكنها فريدة. صحفية عتيدة، وهي زميلة في «الدستور». بدأت تكتب في «الدفاع». أول مقالة لها كانت بعنوان: ألم ودموع حول النكسة».
قلت لها: يا محاسن، إبدأي بكتابة هذا البوح. إجمعيه في كتاب. فرغي حقيبتك، وابدأي بأمك» بالأمس أرسلت لي أختي الأستاذة محاسن الإمام رسالة تقول: هل تذكر كيف بدأت قصة الكتاب في بيروت، يوم قلت لي فرّغي حقيبتك، وابدأي بأمك». نعم أذكر يا «أم نور». مِثلك لا يُنسى، ومثلي لا يَنسى. هاتف بيتكم في اللويبدة 635. وسيارة والدك من طراز 1955. كان له بيتان، واحد في «وادي الجوز»، وآخر في الشيخ جراح. شبكة زفافك اشتريتيها من «سكجها» و»أبو سارة». درست في «الزهراء» في وسط البلد. انتقلت إلى الكلية العلمية الإسلامية. رحل والدك دون أن يتخلى عن طربوشه الأحمر حتى ساعته الأخيرة.
مبروك للناشطة وابنة «الدستور» الصحفية التي طُبع كتابها «من حقيبتي» على مطابعها، وشكراً لعميد الدار معالي الأستاذ محمد داودية على رعايته حفل إشهار الكتاب الثلاثاء المقبل، وشكراً لشارع الحمراء.
الدستور