بين انطباعية الفساد ومصداقيته
صحيح أن الأردن حقق على مستوى الوطن العربي والمنطقة مرتبةً متقدمة على مؤشر مكافحة الفساد العالمي الذي تصدره سنويًا الشركة السويسرية لإدارة المخاطر حيث كان الأول عربيًا والسابع والخمسين من أصل 196 دولة عالميًا فيما سجل على مؤشر هذا العام درجة خطورة منخفضة 38.04 نقطة من مقياس صفر - 100.
وصحيح أن خبيرا دوليا بحجم الدكتور محي الدين توق يقول إن هذه الشركة هي الجهة الوحيدة في العالم التي تأخذ بعين الاعتبار حالات الفساد الحقيقية والمعلنة في الدول عند احتساب العلامة الكلية وتعتمد ما تعلنه الهيئات المعنية في الدول والحالات المعالجة ونسب النجاح المتحققة والأحكام الصادرة والاستردادات وعلى التقييم على الفساد المدرك والحقيقي.
صحيح كل هذا، ولكن «قلوب الناس من الحامض لاوية»، كما يقول مثلنا الدارج.
بعيدا عن الأرقام وتوضيحاتها فإنني لا أعرف لماذا كلما ذُكر الفساد ومكافحته أتذكر طقوس الحمام في طفولتنا. فقد كنا نكرهه ونهرب منه كهربنا من معلم واجهنا في رأس زقاق. لأنه يوم حساب وعقاب، وحين تقع في قبضة الأم؛ فلن يفيدك عويل أو استغاثة.
فالأم في العادة كانت تؤجل وتدخر كل عقوبة مستحقة لهذه المناسبة السعيدة. ولهذا كان وعيدها وتهديدها على شكل: (وين بدك تروح؟!، بديش أمسكك؟!)، طبعاً مع العضّ على الأصبع أحياناً، وإطلاق بعض شتائم تخص الأب.
وحين تقبض عليك وتجرك للحمّام، عليك أن تشهِّد، وتوصي إخوتك بآخر أحلامك، وقد يبدأ مشوارك بخلع الملابس بلين كاستدراج ذكي؛ ريثما تغدو (زلطاً ملطاً). ثم تسنُّ الصابون على ليفتها الخشنة بعصبية، وتبدأ بتلاوة محضر الذنوب الذي نفذتها طيلة أسبوع: ليش وسخت قميصك بالطين؟، وليش شديت جديلة سماح؟ وليش صفّرت بالرياضيات؟، وتعربشت على دالية الجيران؟ وبصبصت عليهم من خرم الباب، وليش راجدت (قذف الحجارة) على بوابة على دار أبو فلان؟، وسطيت على خم جاجات أم سعيد.
وخلال تلاوة المحضر عليك أن تتوقع زخات متفرقة من الصفعات الرنانة، والقرصات المباغتة اللولبية، وشد خدود، ومرس أفخاذ. وإذا كنت فاسداً كبيراً؛ فقد تتلقى كُماداً (قبضة) مدججاً بلوح صابون المفتاحين.
في هذا الوضع لا يكون أمامك سوى الزعبرة والتصنع وطلب المغفرة و(بوس التوبة سبع مرات)، فهذا ربما يخفف عليك، مع الحرص على عدم الهرب، ليس لأنك عار، بل لأنك ستلف وتدور كالأعمى ثم تعود للجلوس على مفرمة الخشب في اللقن؛ فيتجدد العقاب بقوة إضافية.
بعد تقرير الشركة السويسرية تمنيت لو أن الفساد في بلادنا كان وسخاً عابراً، وعندها كنا حممنا مفسدينا بدلك غاضب لليفة تعيدهم برائحة طيبة وشاليش لامع. لكن الفساد لا يقوى عليه صابون، فهو لا يعلق بالجلود كالوسخ أو حبات التعب. بل يتخلق في نخاع العظام دم يجري في العروق.
الدستور