الرقيقة الفولاذية
حين قالت المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل التي دخلت فضاءات تقاعدها، إنها ستعمد إلى زراعة البطاطا في حديقتها، وتنعم ببعض الفراغ، وقراءة ما قبل النوم؛ لم يخطر في بالي ما تمثله البطاطا للشعب الألماني، حتى ولو بلغ معدل تناول الفرد الواحد منها 67 كيلوغراما سنويا، ولا مدى سيطرتها على موائدهم الثرية بكل فنون طهيها وتقديمها وتشكيلها.
بل خطر في البال مثلٌ شعبي شائع يستخدمونه بوفرة عندما يتخلى شخص عن آخر إذ يقولون بحشرجة: «تركه يسقط مثل حبة بطاطا ساخنة». خطر لي هذا، ليس لأن الألمان تركوا مستشارتهم ترحل أو تسقط بعد نضجها، فهي تقاعدت طواعية وبسلاسة شم وردة. بل لشعوري أن عالمنا خسر قائدة قلما ستتكرر في صفحات تاريخه؛ ولهذا حزنت ووددت لو تبقى، فعالمنا المشدود كقنبلة عمياء يفقدُ برحيلها قائدة شكلت مقياسا حساسا نقارن به كل من يتسلم موقعا عاليا في مجتمعه.
كان الألمان فيما مضى يعيشون عقدة موجعة فيها كثير من الندم والحسرة، ولم يستطيعوا يوما تجاوزها وهي: كيف لهم أن ينسوا أو يتجاهلوا أنهم أوصلوا أودليف هتلر إلى هذا المنصب من قبل؟. ولكنهم اليوم بكل تأكد تخففوا من تلك العقدة بعد تقديمهم قائدة لم تعلن يوماً أن بلادها فوق الجميع، كما فعل هتلر، بل كانت تقول دائماً إن ألمانيا مع الجميع وللجميع وبالجميع.
كل قائدة من بعدها، أو حتى في حساباتنا لمن سبقنها في إدارة دفة الحكم؛ ستقارن بها وبأفعالها ومواقفها، من جاسيندا أردرن في نيوزيلندا، وسانا مرنيلا مارين في فيلندا، ومارغريت تاتشر، أو كليوبترا المصرية، أو زنوبيا العربية، أو سميراميس البابلية وغيرهن. فميركل كان لديها شيء قلما توافر في غيرها وهو الإنسان في أبهى معانيه.
لم يصل إلى مستشارية ألمانيا بمثل عدد وصولها من المرات إلا هولمت كول. وهو من لكتشفها وأخرجها من برودة مختبرات الفيزياء، وسلّمها وزارة المرأة والشباب، لتحلّق فراشة في فيزياء الحياة وديناميكيتها، ولتبرهن لنا أن الخيال ما زال أهم من المعرفة لبناء حياة بني الإنسان، وإن كان الصدق نواتها الصلبة.
في بالي أننا نحتاج إلى خيال رؤساء وزعماء ملهمين لعالمنا؛ ليبعدوا عنه الحروب والكروب، ويبطلوا البطالة، ويعمّروا ويثمروا، ويفكروا بعقل جمعي، كالرقيقة الفولاذية التي أتمنى لها أن يتخصّب حقل بطاطا حديقتها ويغلّ، ويخضرّ في كلّ الأوقات؛ لتنعم براحتها المنشودة.
الدستور