مشروع أصيلة
سعدت في آخر أيام السنة، بالحديث مع الأخ الصديق محمد بن عيسى، وزير الخارجية والتعاون الدولي الأسبق في المغرب الشقيق، وعمدة أصيلة ومشروعها الثقافي المتمثل بمنتداها السنوي الذي تستضيف فيه سنوياً نخبة من الأدباء والمفكرين والسياسيين، في تلك المدينة التاريخية الشاطئية العريقة المطلة على البحر الأبيض المتوسط ، والتي تبعد 35 كيلو متراً عن طنجة في الشمال. أصيلة الأنثى المراوغة بأزقتها الضيقة الرحبة، وبيوتاتها البيضاء الموشاة بالأزرق، والمزينة بأصص الفخّار المزروعة بالأزهار، معرض فني مفتوح في الليل والنهار على مدار أيام السنة.
عادت بي الذاكرة إلى حزيران عام 2013، يوم التقيت بنخب من بينهم أصدقاء، كانوا أصدقاء من قبل، أو أصبحوا أصدقاء من بعد، ومن بينهم الروائية سحر خليفة صاحبة «الصبّار»، و»ربيع حار»، التي اجتمعنا للاحتفاء بتكريمها في ندوة، إثر منحها جائزة محمد زفزاف للرواية العربية، تحدث فيها الروائي الجزائري واسيني الأعرج رئيس لجنة التحكيم في تلك الدورة، والناقدة القديرة الأردنية الدكتورة رزان إبراهيم، والتي ركزت مداخلتها على مبررات منح الجائزة لسحر خليفة، كما تحدث في الندوة محمد بن عيسى، باعتباره الأمين العام لجائزة الروائي المغربي الراحل محمد زفزاف، والقاصة المغربية لطيفة لبصير، وحضرالندوة الأديب الفلسطيني مراد السوداني، والكاتبة الفلسطينية نغم الحلواني، والأديب المغربي أحمد المديني.
وعدت إلى ندوة سياسية شارك فيها الوزير الأسبق الدكتور مروان المعشر، والوزير الأسبق الصديق صالح القلاب، والوزير الفلسطيني الأسبق الصديق نبيل عمرو، والصديق والأخ الراحل الدكتور محمود جبريل رئيس وزراء ليبيا الأسبق.
استعدت ذكريات جميلة جمعتني بالصديق الإعلامي والروائي اللبناني أحمد علي الزين، والإعلامية اللبنانية الصديقة نيفين أفيوني، يوم كنا ندير أحاديثنا في الأدب والفن وعلم الكلام، ونثرثر على ضفاف البحر، لترتفع ضحكاتنا فوق صخب هدير البحر، وعيوننا لا تنفك عن التحديق في مشهد زبد يزداد بياضاً وامتداداً على رمال شاطئ خلاب، واستعدت كرم أهل المغرب، فقد كنت أحمل في يدي مفاتيح غرف ثلاث في فنادق ثلاث، فندق القصر في أصيلة القديمة، وغرفة في نُزُل بريد المغرب على شاطئ أصيلة، وثالث في فندق الموحِّدين على شاطيء طنجة.
كنت أصحو قبل الفجر أنتظر شروق الشمس على وجه البحر، وصياد عجوز يضع على رأسه قبعة ضخمة، يحمل سنارته ويقف في منطقة التماس بين البر والبحر، بكل أنواع الصبر، من أجل أن يصطاد سمكة، أسائل نفسي في ما إذا كان الدافع، الرغبة في الصيد، أم اشتهاء طعم سمك الصيد، أشهى أسماك البحور. هناك في تلك المنطقة يلتقي الماء بالماء، لأول مرة في حياتي أرى البحر كعكة مقسومة إلى نصفين، أزرق باهت، وأزرق مزرق، بحرٌ يلتقي فيه بحرٌ ببحر، أو بحر بمحيط، الأطلسي بالمتوسط، تزداد سرعة الرياح على قمة «راس سبارتل»، إلى درجة تخشى من شدتها، أن تحملك معها إلى حيث شاءت.
وكما التقى المتوسط بالأطلسي على صفحة الماء، التقى محمداً بعيسى عليهما السلام، في اسم عمدة أصيلة، محمد بن عيسى من مواليد برجي، الجدي، لا يكل ولا يمل، يفرق بيننا في الولادة يومان، سبقني بيومين، وأربعة وعشرين عاماً، بدأ دراسة الصحافة في مصر سنة ولدت، عمل مبعوثاً للمغرب في الأمم المتحدة، كما في «فاو» منظمة الأغذية والزراعة، كما تولى حقيبة وزارة الثقافة، وسفيراً لبلاده في الولايات المتحدة الأميركية، قبل أن يضع عينه على أصيلة، ليؤسس فيها منظمة غير حكومية عام 1997 لاستمرار مشروعه الثقافي الرائد الذي أطلقه بمعية رفيقه محمد المليحي عام 1978 عندما أسسا جمعية المحيط الثقافية.
ما كان يمكن لمحمد بن عيسى بمفرده أن ينجح في تحويل أصيلة إلى منارة فكر وعلم وأدب وفن ومعرفة، إلا لأن مشروعه أصيل، ولأنه محب لوطنه، ليبلغ الرجل من عمره المديد 85 عاماً، وهو ما زال يجاهد بدهشة وولع، لإبقاء مشروع أصيلة الثقافي حياً، ولا غرابة في الأمر، فالمثل المغربي السائد يقول: في المغرب، لا تستغرب.
الدستور