حين تبخر أطفال الحارات
كانت لعبة الكرات الزجاجية الملونة، القلول، أو البنانير، أو الدواحل، شريكاً استراتيجيا لعطلتنا المدرسية نصف السنوية، ولمربعانية الشتاء تحديدا. الحارات والشوارع الفرعية كانت تعج بالأولاد الصاخبين الذين يشغلهم دف اللعبة عن صقيع الأجواء ومطرها. كانت جيوبهم عامرة بتلك الكرات، والبعض منهم يكنزها في جورب عتيق. وحتى الآن، ما زالت خشخشات القلول تسكن رأسي، وترنم روحي بلذيذ أنغامها كلما تذكرتها.
كنا لا نركن إلى دفء البيوت، فالبرد لا يحجبنا عن الحارات والأزقة والأصدقاء، نلتقي على صوت جرس خفي يجرنا من آذاننا، وكل معه كراته الزجاجية الصغيرة التي كان عددها المقياس الحقيقي للثروة والتباهي والتفاخر ومجلبة للعراك والشجار. كنا نهرب من البيوت، رغم وعيد الأمهات بعقوبة تليق بجلودنا المزرقة إن عدنا متسخين، ولكننا لا نتذكر وعيدهن إلا حين نعود موحلين بالطين، ملتهبين كجمرة من فرط سعادتنا، لا نبالي بعدد الصفعات التي ستحل بنا.
تذكرت هذه المشاهد، وأنا أرثي في هذه الايام لحال الحارات والشوارع والساحات سواء في عطلة الشتاء أو عطلة الصيف، إنها خالية من أولادها، حتى في القرى. أين هم؟ أين تبخروا؟ وكيف ذابوا؟. أين صخبهم؟ مرحهم؟ حيويتهم وصيحاتهم وشتائمهم الرنانة؟ أم أنهم وقعوا في أسر هواتفهم واستعبادها ونيرها؟. يااااااه، كيف سيكبر هؤلاء دون لعب مشبع؟، كيف سيكونون أسوياء أصحاء، عقليا وروحيا وعاطفيا وجسديا؟.
أشفق على كل طفل يتربى بعيداً عن أديم الأرض، ويظل حبيس بيت كبريتي يضيق، وأصابعه لا تعرف إلا شاشات الحواسيب وأزرار الهواتف، ومقابض الألعاب. أشفق على كل من لا يلعب ويصخب ويعيش طفولتها وأسال: كيف سيكبر؟!. وهل يكبر الأطفال دون أقامة مدائن من خيال وأمنيات وألعاب وصداقات؟!.
ربما يغفل الأهل كارثة أن يوغل أطفالهم في عالم الكمبيوتر، والبلاي ستيشن، وجنون الهواتف الذكية، ومواقع التواصل واللهاث خلف اليوتيوب. ولربما يغفلون أهمية أن نبعدهم قليلاً عن هذا العالم الجارف القاتل الآسر ولو قليلاً؛ كي لا يتحولوا إلى كائنات منطوية على ذاتها، أنانية استحواذية معقدة.
التربية الحديثة تؤمن أن اللعب ينمّي الأولاد، وأنه وسيلة للتعليم الفعال، وبه يفرغون طاقتهم؛ فيصقلهم ويشذبهم. ولهذا تعمد المدارس التي تراعي نفسية الطفل وعقليته، أن توفر التراب والرمل والطين؛ ليصوغوا طاقتهم بالطريقة التي يريدونها. ولنتذكر دائماً أن طفلاً ينشئ بلا لعب، سيصبح مشوش الشخصية، مهزوز الوجدان، قاصر الخيال.
مرحى للعب ومرحى للعودة إليه.
الدستور