أنا أبوكِ يا ريّا
عندما التحقت في جامعة اليرموك عام 1980، كان قد أصبح نائباً للرئيس، أسهم في تأسيس الجامعة، وعمل قبل وصولي إليها مديراً لدائرة اللغة العربية، فعميداً للبحث العلمي والدراسات العليا، ثم مديراً لدائرة العلوم الإنسانية، قبل أن يتسلم عمادة كلية العلوم والآداب.
ومع انضمامي للفوج الأول من طلبة الإعلام، بادرت ومجموعة من الزميلات والزملاء بإصدار نشرة يومية تغطي أخبار الجامعة، لعلها أول نشرة من نوعها في تاريخ الجامعات الأردنية، ولما واجهتني مشكلات في تحسين نوعية ورق يطبع على آلات دائرة العلاقات الثقافية والعامة، لجأت إلى عميد العلوم والآداب، وكان آنذاك الدكتور معاوية إبراهيم، ولمّا لم يشف غليلي، توجهت إلى الرئاسة، وسهّلَت سكرتيرة الرئيس سعاد سويدان، الدخول لمقابلة الرئيس عدنان بدران، سمعني، ولباني، واتصل هاتفياً بالراحل مجيد غنما، وطلب إليه تسهيل مهمتي.
ومنذ ذلك اليوم، استمرأت، أو اختصرت على نفسي الطريق، كلما واجهتني مشكلة، كبيرة أم صغيرة، ألجأ للرئيس، ولمّا كان في سفر ذات يوم، وجهتني زينب ابداح في مكتب الرئيس، إلى نائب الرئيس محمود الغول، وهكذا طرقت باب مكتبه للمرة الأولى، والتقيته للمرة الأولى. استقبلني بابتسامة عريضة، لبى طلبي بصدر منشرح، استاذنته شاكراً وهممت بالخروج، فناداني. قال: هل سمعت آخر نكتة عن الخلايلة؟ ابتسمت وقلت: النكات عليهم كثيرة. قال: لكن لدي واحدة «جديدة لنج»، فضحكت، وأخذ يلقي على مسامعي النكتة، وفي مرة أخرى روى لي نكتة ثانية، إلى أن طرقت مكتبه ذات يوم، فأذِن لي وسأل عن طلبي، قلت: لا شيء، فقط أردت أن أسالك، إذا كان لديك جديد. قال: جديد ماذا؟ قلت: نكتة جديدة عن الخلايلة. أطلق ضحكة مجلجلة، وروى لي نكتة.
وعندما مرض، وانتقل إلى المدينة الطبية، أخذ أعضاء الهيئتين التدريسية والإدارية بزيارته بعد أن علموا أن مرضا عضال قد داهمه على غفلة، قال لي الدكتور مازن العرموطي هامساً: «زرنا الدكتور الغول، سأل عنك، إنه معجب بك، لعلك تزوره». لم أدرك زيارته بسبب سفره في رحلة علاج إلى لندن، عاد بعدها وسلّمت عليه، لكن القدر لم يمهله. حزنت على فراقه، وذرفت الدموع ، ليس فقط لأنني افتقدت من كان يلقي علي بالنكات، أو يلبي مطالبي، بل لأنني أدركت أن الفقد جلل من طراز فريد. كتبت عنه في كتاب «السنابل» الأول، مقالة عنوانها: «محمود الغول عاشق اليمن». سألته يومها عن سر عشقه ، قال: لأن كل واجهة من مباني اليمن، تقول لك، هنا اليمن، وهذه اليمن، ثم قال: «من يبني مباني اليمن، مش شركات أجيكو وماجيكو».
كنت ما زلت شاباً صغيراً ، لم أدرك من هو محمود الغول، لم أكن أدرك أنني أتحدث مع موسوعة علمية نادرة، ومع رجل ترجم «إنياذة فرجيل» عن اللاتينية وهو في سن التاسعة عشرة من عمره، أقول لزملائي «الإنياذة»، فيقولون: «قصدك الإلياذة». وأضطر للشرح، تلك لهوميروس، وهذه لفرجيل ، تلك التي نشرت بعد تحقيقها عام 2005، وقدم لها الدكتور عمر الغول، فيما قدم الدكتور إبراهيم السعافين ترجمة الدكتور محمود الغول لأعمال هوراتيوس النقدية ، النسختان حررهما الدكتور عمر الغول بمساعدة طالبته نداء الخزعلي.
لم أكن أعرف قيمة رجل درس اللاتينية صغيراً، ثم السريانية، لينال درجة الدكتوراة في اللغات السامية، وأن هذا الرجل الذي يلقي بالنكات على أحد طلبة الجامعة، مترجم كتاب فن الشعر عن اللاتينية لهوراتيوس، وعندما تخرجت والتحقت للعمل في مجلة العربي الكويتية، اكتشفت أن الغول نشر مقالة في «العربي» حول دولة العرب في الكونغو، في السنة التي ولدت فيها، وقد ولدت في مثل هذا اليوم من عام 1961.
نشأ ذات يوم خلاف في دائرة اللغة العربية، كان أحد أطرافه الدكتور كمال أبو ديب، فاتخذ الدكتورالغول موقفاً حازماً في سبيل التوفيق، وعدم توسيع رقعة الخلاف، وضرب بكفّ على طاولة مكتبه قائلاً: «وأنا أبوك يا ريا، لن يستمر هذا الأمر».
عندما ولِدَت ابنتي فرح، أخذت أضرب على الطاولة، كلما قررت حسم أمرٍ قائلاً: «وأنا أبوك يا فرح، سأفعل كذا وكذا». اكتشفت أنني لم أتأثر فقط بدراسات رجل في ربط العلاقة بين نقوش على الحجارة، وتراث اللغة العربية الفصحى، بل إن نقشاً قد طبع في الذاكرة، وفي السلوك، وفي عشق البحث ومساراته مهما كانت الصعاب، وهو نفس المسار الذي اتخذه الدكتور عمر عبد القادر الغول عندما تخصص في النقوش السامية الشمالية الغربية، لتنصب اهتماماته البحثية حول البرديات والخط العربي.
رحم الله العلامة، والقامة العلمية، والفكرية، والأخلاقية، وحفظ الله ريّا.
الدستور