قصة يوسف 3-3
يبدو أن نكبة فلسطين خلّفت ندوباً في نفس يوسف، وبخاصة عندما شاهد في مقتبل عمره الجيش العراقي وهو يعبر شارع فلسطين وسط إربد، ومشهد الجرحى فيما بعد، ثم مشهد اللاجئين الفلسطينيين الذين تدفقوا على تلك المدينة الوادعة التي عرفت بأسواقها المرصوفة، وحاراتها الشهيرة: حارة العبدلّات، والدلاقمة، والتلول، والخريسات، والرشيدات، كما عرفت في الماضي كمركز للبريد بما يحتويها بريدها من حمْام وخيول.
انتهى الآن عهد شراء الأقلام والقرطاسية من دكّان رضا غنّام، وهريسة «خيرو أبو رسول»، وأفلام سينما الزهراء، و»بصبصة» الرجال على النساء بعد خروجهن من حفلة ما بعد العصر، حتى وإن كنّ يضعن ملايات على وجوههن، وانتهى عهد إشعال الشوارع بمصابيح كاز يؤتى به من حيفا، كما انتهى زمن توليد الكهرباء على مولد عبده يغمور، بل حتى المولّد الكبير الذي استجلبه من شركة كهرباء «روتنبرغ»، وانتهى عهد «الوَلدنة» والشقاوة، لم يعد هناك حكومة «هربيد»، ولا امتهان للعبيد، وانتهى عهد الأحزاب التي تتبع أجندات خارجية لجهات كانت تسعى إلى خراب البلد، وتخريب عقل الولد.
عين الدكتور يوسف غوانمة أستاذاً مساعداً في العلوم الإنسانية والاجتماعية في جامعة اليرموك في السادس عشر من أيلول عام 1978، وابتعث إلى جامعة برنستون لمدة سنة، وقام باختيار الجامعة، وإعداد الترتيبات، الدكتور محمود الغول عندما كان مديراً لدائرة العلوم الإنسانية، وأجرى اتصالاته مع الدكتور «جون ماركس» للتوصية، وتوصيف الدراسة المطلوبة.
التحقتُ أنا بجامعة اليرموك عام 1980 عقب وصول يوسف غوانمة إلى الجامعة لتسلُّم عمله، وصّف الدكتور الغول بنفسه -وكان آنذاك نائباً للرئيس - للدكتور غوانمة، مساقاً جديداً بعنوان: «تاريخ الأردن وفلسطين في العصر الإسلامي»، ورمز المساق 155، كنت أحد الذين سجلوا لهذا المساق في سنتي الأولى، كمتطلب من متطلبات الجامعة. موعد المحاضرة الساعة الثامنة من أيام السبت والإثنين والأربعاء، بالطبع ندمت على تسجيل مساق يبدأ في هذه الساعة المبكرة، أصل في العادة متأخراً، بمعنى أنني كنت أدخل إلى القاعة، بعد دخول الدكتور المُحاضر، وكان على الدوام يبتسم، شكل الابتسامة أخذ يختلف، إلى أن قال لي يوماً بعد أن جلست على مقعدي، والطالبات والطلاب ينقلون نظرهم بينه وبيني، وقد توقف عن الحديث، وركز ناظريه نحوي، ثم قال لي: «بتعرف يا طهبوب، عندي إحساس، أنك لو وصلت قبل موعد بدء المحاضرة بدقائق، فإنك ستتوجه لتدخين سيجارة، بانتظار دخولي، لتدخل بعدي». قلت بهدوء: «كلامك صحيح». قال: يعني يُمكن أن تفعل ذلك؟ قلت: لا. قال: ولماذا قلت: «كلامك صحيح». قلت: لأنني لا أريد أن أكذِّب إحساسك، فانطلق في ضحكة مجلجلة، وكذلك زميلاتي وزملائي، وقال: «خفة دمك تغفر لك زلاتك».
حصلت في نهاية الفصل على علامة 90 في تلك المادة، وكان الدكتور يوسف يقابلني بابتسامة عريضة كلما صادفته في حرم الجامعة، كان رجلاً دمثاً، أنظر إليه وأتخيله واحداً من أحفاد صلاح الدين الأيوبي، أو سيف الدين قطز، ارتبط الرجل في ذهني بتاريخ الأيوبيين والمماليك، وارتبط في وجداني بتاريخ الأردن وفلسطين، بعراقة الكرك، وتاريخ الأنباط، وعمق حضارة بلدات بني كنانة، ومدن الديكابوليس، وأهمية عمان في الماضي والحاضر كما في المستقبل.
فقد «أبو هشام» ابنته هنادي بعد عام من فقدانه زوجته، هنادي التي استقبلها الحسين العظيم بعد حصولها على درجة الماجستير في التاريخ الحديث عن رسالتها بعنوان:»المملكة الهاشمية الحجازية». استقبلها الراحل الكبير في الديوان الملكي، بحضور الدكتور خالد الكركي، وخالد محادين، وفي اليوم التالي تلقّت اتصالاً من الديوان الملكي: جلالته أمر بابتعاثك لنيل درجة الدكتوراة في جامعة ليدز البريطانية. لم يمهل القدر هنادي طويلاً، فتوقف قلبها، ولحِقَت بأمّها قبل أن يلحق الأب بزوجته وابنته.
وكما لم يتمكن يوسف غوانمة، من أن يلتقي بعد عودته من مكة، والده حياً، لم أتمكن من ملاقاته إلا عند ضريحه، اصطحبتني ابنته، أستاذة التاريخ الدكتورة نرمين، التي قدر الله أن ترحل أمها في يوم ميلادها، اصطحبتني إلى حياة يوسف، وهيام، وهنادي، في سحم الكفارات، فألقيت السلام، وقرأت الفاتحة، وآية من سورة الرحمن، « كل من عليها فان، ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام». صدق الله العظيم.
التراب الأردني خيِّر، ومن خيره تكثُرُ ثمار الأمل، إنها رايات، يُسلِّمها الجد للأب، والوالد للولد، لتظل مرفوعة خفّاقة، ويبقى في حضن أبنائه البلد.
الدستور