تأبين حنا القنصل
(نص الكلمة التي ألقيتها في حفل تأبين فقيد مادبا والوطن الأديب المؤرخ حنا القنصل مساء السبت الماضي)
-لا أجد نفسي في المكان الصحيح ولا يحق لي الحديث باسم أصدقاء الراحل العزيز حنا القنصل، فلست من أقرب الأقرباء ولا من أعز الأصدقاء، ولا تتعدى لقاءاتي المتكررة معه النصف ساعة أسبوعيا عدا بعض الاستثناءات فلا يحق لي احتلال هذا المكان.
هذا ما كنت أقوله قبل الموافقة على الوقوف هنا، بعد أن أدركت شيئا مميزا في حنا القنصل، مميز من النوع الذي من النادر أن تجده أو تلتقيه في حياتك أكثر من مرة في العمر:
حنا القنصل كان بؤرة الدائرة وكنا نحن جميعا نتربع على ذات المسافة من وجدانه حول تلك الدائرة، لذلك كان يحق لكل واحد منا ومنكم ومن جميع من يعرفه أن يكون ممثلا لأصدقائه في لقاء العرفان هذا.
لم أعرف شخصا تجمع عليه المدينة بل المحافظة بل الأردن بأكملها كما أجمعت على فقيدنا الغالي، فما انتشر خبر وفاته حتى ضجّت مواقع التواصل الاجتماعي ببرقيات التعزية التي توحي بالصدمة والحزن والفقد لهذا الرجل الكبير الكبير.
كائنات من مختلف المشارب والميول والمنابت والأصول والمشاتل جمعهم الحب والاحترام لحنا القنصل.... ما فرقه الإنسان والزمان والمكان وما فرقته الخلافات بأنواعها جمعه الراحل.
كانت خسارة الجميع كبيرة كبيرة:
-هل خسرنا الأستاذ والمعلم الذي ترعرعت أجيال بين يديه وما تزال تحمل في ثناياها ما علمها إياه من محبة للوطن وللعلم وللحياة؟
-هل خسرنا المحاضر المتميّز في الأدب وعلوم التربية وفي الكثير من المجالات؟
-هل خسرنا الخبير العارف بآثار المحافظة الساعي دوما إلى إيجاد السبل للحفاظ عليها إرثا للوطن؟
-هل خسرنا الضيف الدائم على الفضائيات للحديث عن مادبا أرضا وشعبا، المدافع عن حقّها في الحياة الحرة الكريمة؟
-هل خسرنا الحاضر دوما في جميع اللقاءات والمناسبات وتجمعات المحبة والتآلف المبشر دوما بمادبا للجميع ووطن للجميع.
-هل خسرنا المؤرخ الدقيق الناقد، الخبير في خفايا التوراة وخفايا التفسيرات الصهيونية الفاضح لأطماعها الدائمة في التوسع والاحتلال؟
في الحقيقة والواقع فقد خسرنا كل هذا الخسارات في موت رجل واحد.
أيها الأعزاء
تظل الحياة أقوى من الموت، الموت لا يوجع الموتى بل يوجع الأحياء، لكن من هذه الأوجاع تولد حيوات جديدة كل لحظة تهزم الموت وتغني للحياة التي هي الثابت الوحيد في هذا الكون، وإذا انتهت هذه الجميلة التي نسميها الحياة فسوف يتحول الكون إلى مجرد ركام فوضوي من المادة والطاقة والذرات المتنافرة.... إلى مجرد هباء عظيم وعماء أعظم.
فلتحيا الحياة
فلتحيا الحياة.
الدستور