خربشات على دفتر الرسم 2-3
المزارعون في «الكرامة» من اللاجئين، منحوا الصبية خضاراً ودفئاً وفاكهة، لا شك أن أهل شرقي النهر حنّوا على أهل غربيّه، وأن وحدة الضفتين منحت أهل غربي النهر ظهراً وحضناً وظهيرا. انقضت أشهر ثلاثة قضاها إبراهيم في الكتّاب، وسافر يوسف العايدي الذي كان يقول للتلاميذ وهو يحفظهم القصائد: «يجب أن يخرج البترول من تحت أقدامكم»، سافر يوسف إلى الأزهر الشريف لإكمال تعليمه، وإبراهيم يُردّد ما حفظه من أشعار صفي الدين الحليّ: وَرَد الربيع فمرحباً بورودهِ، وبنور مطلعهِ ونور ورودهِ.
نسيت أن أذكر لكم أن إبراهيم وُلد في سنة غير معروفة، وفي شهر مجهول، وفي يوم غير معلوم، أمُّه وضعت قبل الهجرة، كل أوراق الأسرة الثبوتية والرسمية مع ما غلا، في «المطمورة»، وأحكمت الإغلاق. لم يكن ما فعلته غريباً، كل نساء فلسطين اللواتي عرفن الهجرة، وضعن الغالي والنفيس في «مطمورات»، وأحكمن الإغلاق، لأن العودة قريبة لا محالة، كيف تصدق الأمهات أن بيوتهن سيسكنها اليهود، ويدّعون ملكيتها.
كانت الأم حاضرة في حياة الصبي، تنتج الزبدة، واللبن، واللبنة، وتخبز على الطابون، وتمنحه رغيفاً ساخناً ليطليه بقليل من الزبدة، أو يَخرُج بتعريفة إلى السوق لشراء ساندويتش «مُعتبَر» من الفلافل، ويتنقل مع أصحابه في حقول المزارعين من أجاويد غور الأردن، إلى أن انتقل إلى مدرسة المخيم التابعة لوكالة غوث اللاجئين.
اقتنع الفلسطيني أن لا مستقبل له بعد التهجير إلا بالعلم والتعليم، وينشغل الصبية بتخطيط لوحات كتب عليها: لن ننساك يا يافا، لن ننساك يا حيفا، لن ننساك يا بيت محسير، لن ننساك يا الفالوجة، و»لن ننساك» كثير، حتى لو تم مسح بلدات عن خارطة الأرض، وتغير إسم قرية من «الخالصة» إلى «كريات شمونة»، وحتى لو تبقى في «يَبنا» مئذنة جامع خرِب، أو أربع درجات من بيتٍ شهِدَ آخر عرس في «الغابسيّة».
كان الصبية في المدرسة ينتظرون قرع الجرس، للخروج لتناول وجبة الغداء قبل الانصراف إلى بيوتهم، طقوس جماعية لا تخلو من فرح وألفة بين مهجّرين من بلدات مختلفة، جمعتهم المظلمة، والبقجة، والبهجة، يضعون ربطات عنق مزركشة على قميص لا يليق، تبدو أشكالهم وكأنهم مهرجون في حفل تنكري ساخر، ينتظرون يوم توزيع المؤن، ويشاهدن النساء وهن أمام «الطبليات» يفتلن الشعيرية، وتُنصب أمام الرجال أباريق شاي بالميرمية، وتأتي ثورة الجزائر، فيتبرع إبراهيم بمصروفه اليومي لمناصرة حركة التحرير، وعندما جرى العدوان الثلاثي على مصر، كان في الصف السادس الابتدائي، ويردد أغنية محمد سلمان: «أمجاد يا عرب أمجاد، في بلادنا كرام أجياد»، ولعل أول بيت شعر كتبه، كان بدافع العاطفة القومية: «أيا بور سعيد حالةٌ، يرثى لها عند الكلام»، وفي أوقات أخرى ينشغل الصبية بانتظار اشتعال حرب بين مكفوفَين يعرفان موقع الخدود، ويلطمان بعضهما عندما يستعر الهجوم، أبو عزت، وأبو دحرة، يبعثان على خلق أجواء مثيرة مسليّة.
وصل إبراهيم الصف الثاني الإعدادي، تزعم مؤامرة في المدرسة، تهدف إلى إقصاء معلم اللغة الإنجليزية داود الأسمر، والمطالبة باستبداله بمحمد ديب صالح، صاحب الأسلوب الساحر في القص، إلا أن حظ المتآمرين العاثر، أن تصادفت مؤامرتهم، مع تواجد مراقب التعليم عبد خلف داودية وعندما علم بالأمر، دخل إلى الصف، وقال: من لا يريد أن يَدرُس، يُسلّم كتابه ويخرج، فسلّم الجميع كتبهم وخرجوا. طار صواب داودية لهذه السابقة الخطيرة، وعقد جلسة تحقيق، انتهت بنفي إبراهيم وخمسة من رفاقه - كما ذكرت بالأمس -إلى مدارس أخرى.
عاد إبراهيم من منفاه في مدرسة عقبة جبر، ليجد أن إدارة المدرسة استجابت لمطالب التلاميذ، بأن عهدت إلى «محمد ديب» تعليم الإنجليزية. أنهى الشاب دراسته حتى الأول الثانوي في «الكرامة»، وتابعها في «عقبة جبر، ويبدو أن موهبته الشعرية أخذت تنمو، كتب هناك قصيدة على لسان صديقه يوسف الفيومي: «لا تفخر أنك من شام، لا تفخر أنك من يمنٍ، إني ابن العمدة في العزبة، مرتفع الجيد، والعزمُ حديد»، وحصل على الثانوية العامة عام 1962، وكان الخامس في القسم الأدبي على الضفتين، ما مكّنه الالتحاق بكلية الآداب في جامعة القاهرة، واختار غيره من الزملاء متابعة الدراسة في دار المعلمين في رام الله التي كان مديرها التربوي البارز سلامة خليل. واظب إبراهيم على قراءة مجلة الأفق الجديد التي ترأس تحريرها محمود الشريف، يبدو أن شاعراً قد ولِد، انتهى عهد الخربشات، عارض أحمد شوقي في قصيدة مطلعها: «رمضان ولّى هاتها يا ساقي، مشتاقة تسعى إلى مشتاق»، فقال إبراهيم: «رمضان أقبَل عالمَ الإسلامِ، فاهنأ بمقدمه البهيج السامي». ثم حاكى قصيدة للشاعر الكويتي أحمد السقاف، ونشر أول قصيدة له في جريدة أخبار فلسطين بعنوان: «بيتنا الخالي» وهو في سنته الجامعية الأولى. كتب خلال دراسته الجامعية ثلاث روايات ما زالت مخطوطات، لم يقرر بعد دفعها للطباعة.
تخرج السعافين عام 1966 الأول على دفعته في جامعة القاهرة، عمل في بلدة العيون في ضواحي الهفوف عاصمة الإحساء، وعندما همّ بركوب الطائرة إلى القاهرة لتقديم امتحان السنة التمهيدية للماجستير، سقطت القدس وحلّت نكبة ثانية، قدّم الامتحان وعاد إلى الأردن، عانق أمه، استقبلته بكل أنواع الدموع، لقد تغير كل شيء، وأصبحت المسافة إلى الفالوجة أبعد، وأطول، وأكثر مشقة.
واصل العمل في الكويت في معهد التربية للمعلمين في «العديلية» عام 1972 بعد أن كان قد تزوج عام 1969 وعاد عام 1972 حاملاً درجة الماجستير وبصحبته عائلة صغيرة مكونة من زوجة وولدين هما حسام وأسامة، وفي السنة التالية، التقى لأول مرة في الكويت بالدكتور إحسان عباس، قبل أن يحصل على درجة الدكتوراة على رسالته: «تطور الرواية العربية في بلاد الشام 1870-1967، ويعين عام 1978، أستاذاً مساعداً في دائرة اللغة العربية في جامعة اليرموك، وغداً نواصل.
الدستور