السياسيون كتّاباً
لا يمكن لمنظورنا الشعبي أن يرى من هو أكثر مبالغة وانزياحا عن قول الحقيقة من شاب تغرّب، وعاش بعيداً عن رصد العيون، إلا رجلاً مسناً (ختيار) مات كل من كان يرافقه في دروبه ومساراته. ففي الحالين سنرى كيف يبني لنا ذلك الشاب أبراجاً من بطولات عرمرمية أبرز ما يميزها عدم قدرتنا على امتحان دقتها. وكذلك الختيار الذي سيصبح بلسان ذي شعبتين؛ يتمدّد في السرد به ويتعدد، دون أن يجد من يقول له: يا رجل، اتقِ الله، أنتَ ما كنتَ هناك.
أحد الأصدقاء، وتعليقاً على ما باتت تشهده ساحتنا العربية من انهيال وتهافت من سياسيين متقاعدين لنشر مذكراتهم وسيرهم الشخصية، اقترح أن نضيف بعضهم، إلى ما كان منظورنا الشعبي يحسبهم ممن يبالغون في القول.
يرى بعض المحللين أن السياسي في العالم لا يرغب أن يركن تحت غبار الرف، حتى حين يتقاعد، بل يجتهد ليخلد في وجدان المجتمع وروحه؛ ولهذا يعمد إلى إصدار تلك المذكرات رغبة في قول، إنني ما زلت هنا. مع أن كثيرا من الناس يردون عليه قائلين أو هامسين: لماذا لم تكن قادرا على الفعل بذات قدرتك على القول حين أصبحت خارج المنصب؟.
المذكرات السياسية أو السير الشخصية للسياسيين في العالم هي منتج متحيز في أغلب الأحيان، بل ومن الصعب التأكد من صحتها أو الوثوق بها واتخاذها مرجعا، لا سيما أن عدداً كبيراً من السياسيين الذين كتبوا مذكراتهم يستشهدون بأشخاص ماتوا، أو يحيلون القارئ إلى وثائق غير منشورة، أو أنهم لا يدخلون في التفاصيل الحساسة ويراوغونها، ولهذا أرى أن معظم تلك المؤلفات في العالم، وليس في عالمنا العربي فقط، تعرّضت إلى البتر تحت هيمنة سيف «أسرار الدولة». أو بحجة أن نشر كل الحقائق لن يفيد الموقف الآن.
في العالم الغربي، هناك ما يعرف ب»الكاتب الشبح»، وهو كاتب خفي يكلفه السياسي أن يكتب مذكراته، بعد أن يسردها عليه مشافهة، ويضع بين يديه ما يحتاجه من وثائق وبيانات. وهذا الكاتب الشبح بات ظاهرة أيضا في ثقافتنا العربية في الآونة الأخيرة. وأتوقع أن يصبح بابا لبعض الكتاب أن يسترزقوا.
لا يثير حفيظتي أو غيرتي في أن المتقاعدين السياسيين باتوا ينافسون الكتّاب في نشر الكتب وتسويقها وبيعها. بل أرى الموقف شهادة بالغة الأهمية في أن الكتابة أرفع من السياسة وأهم. ولهذا نرى السياسيين يتهافتون ليكونوا كتابا حين يتقاعدون، دون أن نرى الكتاب يفكرون في الخوض بالسياسية؛ حتى ولو فكروا بالتقاعد.
الدستور