حكايات الشتوية أكثر دفئا
في الملمات وحتى في الاوقات السعيدة الجميلة، ينحاز العقل الباطني والظاهري الى الجميلين وإلى مكامن ومستودعات الحنين، تلك التي رافقت طفولته وحياته الأولى..
لهذا أنا أنحاز وأنقاد مطاوعا بل متلذذا إلى القرية، الربة وأهلي وسائر افراد العائلة، ومع احترامي لهم جميعا ومحبتي، أجد أن ذكرياتي الأكثر سعادة وعمقا وأثرا في تكويني بل مكنوني الثقافي الإنساني الإجتماعي، متعلقة بأقاربي وإخوتي وأخواتي وأعمامي وخالاتي من عشيرة الزريقات، وسبق أن كتبت وعبرت في مقالات كثيرة، إنني وكلما لاح في الأفق حكاية أو حدث أو موقف أو حتى جدل يتعلق بالديانة، ألوذ إلى الربة ونسيجها الإجتماعي الفريد، الذي يعتبر أصدق وأروع وأنقى صورة في العلاقة بين البشر، علاقة إنسانية لا تعتمد لا على دين ولا عقيدة، فالحديث عن الأديان والعقائد حتى التغني بالمواقف على أساس ما يقال خبثا بانه «تعايش»، هو في حقيقته تفريق وتمييز خبيث، يستقر في العقل الباطني لكل من يتحدث به ويسوقه او يستعرض به، يسوّق الدهشة والتأثر المتكلف لأن المواقف عادية ومألوفة ولا تبعث الدهشة الا في نفوس الغرباء عنها.
المفروض ان اتحدث عن الثلج وخيره، وشره، وفوائده ومشاكله، وأشمر الامن العام والدفاع المدني والقوات المسلحة والأشغال العامة، وأهاجم الكهرباء، والبشر الذين اغلقوا الشوارع وقت العاصفة.. كلها حكايات شتوية، لكنني لن أتحدث عنها، ولا حتى عن الصديق او الجار الذي استعان بجاره او صديقه، ليوصله للمسجد ليؤدي خطبة وصلاة الجمعة، فهو خبر فائض عن حاجتي، واعتبر أن ذكره والإثارة التي انطوى عليها، استعراضية فيها وشاية عن التمييز المرفوض.. لن اتحدث عنه، إنما عن الربة الجميلة.
حين كنا نصوم في رمضان، كنا نفطر احيانا في بيوت مثل بيت المرحوم متري ابو شبلي، وبيت المرحوم ابو ابراهيم خليل الدروبي، وكانت أم هيثم وأم علاء.. تزودنا بفطور ع الماشي، حين يدركنا آذان المغرب، ونحن ما زلنا ننقل الحليب او الخبز من حوش صبح، والمرحومة أم سامر كانت تخبز لنا في طابونها حين يبرد طابوننا او تنشغل امي عن خَبز عجنتها، وكثيرا ما حدثتكم عن طعام الخالة ام إياد وغادة وروز ورسالة والست نجلا وخالدة ونوفة ونجاح، وسهى ونهى بنات سلامة، وسوسن ودلال بنات عايد.. وأمل بنت ابراهيم وكل الأخوات الكبيرات الباقيات، كلهن كن يأكلن في بيتنا ويطعمننا الطعام من بيوتهن، في رمضان وكل الأيام، وحين يكون وقت الصيام عندهن، كانت بعضهن يوصينني ان أذهب لقطف نوع من الأعشاب، حتى اللوف والرقيطة من منطقة المغيسل ووادي ابن حماد، كنا نذهب ونحضره للخالات، وحين كنت أتذمر وأتقاعس كانت أمي وكذلك أبي يؤنباني (يكتلوني)، وحين اقول: وَلْ.. كل يوم بتقوليلي روح لقط لخالتك فيتة وقبة عبد السيد..الخ،خالتك صايمة.. كم مرة كنت أقف عند المرحومة ام عيادة اوصل لها صحنا من طبختنا، ولا أغادر الا بعد ان تعطيني سكر فضي او قلية عدس..!.
مواقف يومية عادية بين الناس والجيران ولم يفكر احد منهم على طريقة الخبثاء او الجهلاء التي نراها اليوم، لم نعرف أو نسأل عن دين أحدنا، وكل النساء أمهات وخالات وأخوات، وكل الرجال مقدّرون لهم الهيبة والاحترام، نعتبرهم أعمام.. ورحم الله عمنا الكبير، الشيخ غانم وكل الرجال الرجال، كانوا يقيموا الولائم في رمضان إفطارا للجيران الصائمين، فكان طبيعيا ان أذهب الى الحقول والسفوح وأقوم بتلقيط الاعشاب:
فيتة و دم المسيح وقرصعنة حتى قرينة الجدي والجلبانة وسياق العروس، والحميض وال»كعوب او جعوب».. كانت أمي تقول: لقط لخالتك حرام يمه، صايمة عن الزفر، وهذا ما اعرفه عن الصيام آنذاك.
عقول هجينة وقلوب ونفوس.. ويا شتات الذكريات، الأخلاق والمبادىء حين يصبح توصيل صديق لصديقه خبرا، يستعرض فيه فاقدوا البوصلة «العلاقة بين الاهل ويقدموها صورة من التعايش قال»!!، ماذا كان سيقول هؤلاء لو شاهدوا أمي تبكي أثناء الصلاة على هاني ابن متري، الذي توفى شابا، وذهابنا الى الكنيسة في صلوات الجناز، وفي مناسبات الإكليل، او حين يعلموا أن بعض الزريقات دفعوا ديونا عن غارمين ليتمكنوا من اداء عمرة او حجا.
حكايات الشتوية الباردة والثلوج، تستحيل دفئا وسكينة حين استرجع ذكريات الربة وناسها الطيبين..
الدستور