التحرّر الرقمي وخسارة «زوكربيرغ»
ربما على الذين يؤمنون بنظرية «الثقب الأسود»، في مدارت المال ومساراته وثغراته، أن يعيدوا النظر فيها كرّتين أو أكثر. فليس ثمّة ثقبٌ لا مرئيّ يبتلع الأموال كالأشياء والأضواء في فضائنا الفسيح. المال - الكاسب اسمه من الميل- لا يحكمه إلا قانون حفظ المادة، الذي يوقن أنّها لا تفنى ولا تستحدث، ولكنها تتحوّل من شكلٍ إلى آخر، أو من رصيد إلى رصيد.
فالذين استهجنوا أو حتى استكثروا، قبل أيام، خسارة «مارك زوكربيرغ» مؤسس شركة فيسبوك، 29 مليار دولار في يوم واحد؛ عليهم أن يتذكّروا «إيلون ماسك» مؤسس شركة «سبيس إكس» ورئيسها التنفيذي حين ربح في يوم واحد أيضاً أكثر من 35 مليار دولار خريف العام الماضي. الربح كما الخسارة، أكثر هشاشة من جناح فراشة في عالم الرقمنة. أي أن مؤشراً بسيطاً، أو حدساً أبسط لربما يطيحان بأعتى الإمبراطوريات المالية ويفلسانها في برقة ضوء أو أدنى.
جاءت خسارة زوكربيرغ بعد أن أعلنت شركته عدم وجود نمو في مستخدمي فيسبوك، خلال الربع الرابع من العالم الماضي، مقارنة بالفترة التي سبقته؛ فخسرت مباشرة 20% من قيمتها. وحسب قانون حفظ المادة؛ فإن نموّين اثنين في مكانين آخرين يقفان وراء هذه الخسارة الفادحة: «آيفون»عملاقة الهواتف الذكية، سيما بعد أن غيّرت خصوصيتها الإعلانية، وشبكة «تيك توك» الاجتماعية الصينية، التي تعمل خوارزميته على زيادة الوقت الذي يقضيه الأشخاص في مشاهدة مقاطع الفيديو، مع تحديثها المستمر الذكي، بما يتناسب مع ذائقة كل مستخدم.
كنت من الذين فرحوا في تشرين الأول 2021 حين غيّر زوكربيرغ اسم شركته إلى «ميتا»؛ لأن شركة تتبنى إصدارات مستقبلية للإنترنت مرتبطة بكون افتراضي، من اللا منطق أن تبقى محشورة في تسمية ضيقة تتمثل في «كتاب الوجوه»، أي فيسبوك، وفرحت أكثر، أن الاسم مأخوذ من الكلمة اليونانية metaverse التي تشير إلى «ما وراء الأكون»، وهذا برأيي يفتح آفاقاً أكثر رحابة نحو عوالم معزّزة لواقعنا، مع أن المصطلح استخدم قبل ثلاثين سنة في رواية (Snow Crash) لستيفنسون، حيث يتفاعل البشر مع بعضهم البعض، ومع برامجيات ذكية، في فضاء افتراضي ثلاثي الأبعاد، مشابه للعالم الحقيقي، كما حصل في فيلم «أفاتار» الشهير.
صحيح أن «ميتا» تسعى إلى نقل مزيد من حيواتنا إلى أكوان ثلاثية الأبعاد، وتحرير وجودنا الرقمي من حدود الشاشة، واستعادة خياراتنا كلها في الحركة على إنترنت أكثر «تجسيدًا»، وتمكين اتصالات أعمق بين الناس والأشياء، في بيئات اجتماعية مختلفة، حيث يمكننا رؤية الآخرين، والتفاعل معهم ومع أشيائهم، بشكل أكثر حميمية، ولكننا، حتى الآن لا نعرف إن كانت تلك الخسارة ستنعكس بشكل بليغ على تطلعاتها الطموحة؟ أم أنها ستكون عابرة ككبوة تنهض بعدها لتلبي رغبات إنسان عالم الرقمنة وما بعده، ولتمنحه مزيداً من الحرية والتحرّر؟.
الدستور