صور الأسرّة الموجعة !
نشر أحدهم على صفحةٍ في وسيلة تواصل اجتماعي، صورة أحد أحبابه وهو ملقى على سرير في مستشفى، وموصل بأجهزة تنفس اصطناعي، وأَرفق مع الصورة، النص التالي: «إنها رائحة الموت يا سادة، دعوه يناجي ربه كما يريد، لم يعد للأجهزة والأدوية، ولا حتى الصدمة الكهربائية أي مفعول، إنه غارق بعرقه، شاحب اللون، هزيل، مرهق، لا يقوى على الحراك، ولا حتى على الكلام، انتهكت خصوصياته، لم يعد له قرار في حياته بين الأنابيب والمحاليل، مُنع من وداع الأهل والأحبة والأصدقاء، مُنع من ما لذب وطاب من الأكل والشراب، ومن عادته، وحاجة حياته اليومية، إنها الحقن، وسرير ال.... المحاط بكل أنواع الأنابيب في الأنف والفم والصدر والأطراف والبطن، وصوت نبضات القلب ، إنها الرعشة، والبرد، والألم، والخنقة، والضيق. والتفّت الساق بالساق إلى ربك يومئذ المساق، وجاءت سكرة الموت بالحق، ذلك ما كنت منه تجيد، دعوه يرد السلام، ليلقى مصيره بسلام».
إلى هنا انتهى النص، احترت لمدة أيام، وترددت في نشره كمثال مقزز، جارح، عديم الأخلاق، والإنسانية، والرحمة، والحقيقة أنه نص صادم، قاس، يبث في النفس ظلالاً من السواد، ليس التعاطف مع المريض، وإنما الرعب في النفس البشرية التي هدّها التعب. ساءلت نفسي: هل هذا الذي كتب النص، كارِه أم محب لذلك الراقد على السرير، هل هو متشف أم متألم، ولكني لم أجد جواباً.
قبل سنوات خلت، انفصل صديق لي عن زوجته، كنت أعرف أنه يحبها، تجرأت وسألته عن السبب، قال لي: السبب بسيط جداً، أن زوجتي حدثتني على السرير في غرفة نومنا بعد أن «تديّنت»، عن عذاب القبر مرتين، تحدثني عن الدود الذي سيأكل جسدي إذا لم أعُد إلى الله. ببساطة، اختار الرجل أن يطلقها، لأنها لا تصلح أن تكون زوجة، ولأنها جعلته يخرج بسيارته في منتصف الليل، ويسير في الشوارع مذعوراً من أحاديثها، ومصدوماً من زوجة تجعله يكره الحياة، وتذكرت محاضرة للداعية الإسلامي محمد قطب ألقاها على مسامعي في مدرج الجامعة الإسلامية في المدينة المنورة عام 1979، قال فيها إن طريقة الدعوة إلى الله، لا تقل أهمية من الدعوة إلى الله.
لم أجد شعباً ينشر صور أحبابه على أسرة المستشفيات إلا شعبنا، أقول شعبنا لتمتد من الأردن إلى فلسطين، وربما إلى سوريا ولبنان أو مصر، ربما السودان، وربما الصومال، لكني لم أجد هذه العادة لا في حاضرة الخليج ولا في خاصرته، ولم أجد لها وجوداً في أوروبا أو الولايات المتحدة، أو شرق آسيا، أو غيرها من قارات الأرض.
لماذا نحن، ولماذا دوناً عن سائر البشر، ما السبب، وما الهدف، وما الذي يجنيه المرء مثلاً من نشر صورة أم أو اب أو أخ أو صديق وهو على هذه الصورة الضعيفة التي تبعث على الألم، ولماذا لا نحافظ على الصورة المشرقة الجميلة لهؤلاء الأحباب كصورة أخيرة، وكذخيرة للذاكرة، بدلاً من هذا الألم، والانتهاك للنفس البشرية في آخر أيامها أو ساعاتها.
مسألة تحتاج إلى دراسة، كما تحتاج إلى توعية مجتمعية، وإلى حملة تنهى عن هذه العادة البغيضة وتنهيها، إنها عادة بغيضة، وهي محرمة في حالة الموت، وغير مستحبة، أو مكروهة في حالة المرض، إن لم يكن الإكراه شرعاً، فإن الكره يعود جوانب إنسانية وأخلاقية. الحفاظ على كرامة الكبار واجب على الصغار، والبر بالأحباب، هو في الحفاظ على صورهم الطيبة، وسلامة ذكراهم، وصيانة كراماتهم.
الدستور