البيت الزجاجي والكهف الأول
يصدف أن تلتقي شخصاً ما في مناسبة، وحين تعود إلى بيتك، وتتفقد صفحتك على فيسبوك، فمن المؤكد ستجد الموقع يقدم لك اقتراحا بإضافة بعض الأشخاص إلى قائمة أصدقائك. وستفاجأ بأن ذات الشخص ماثل أمام عينك. كيف ولماذا؟. هنا عليك أن تسأل هاتفك الذكي!. فهو متواطئ مع هذا الفضاء، فمجرد ما خزنت رقمه على جوالك، أو وضعت أنك في الموقع الفلاني بصحبته؛ سترى الهاتف يتطوع لمنح المعلومة لفيسبوك فيزكيه للإضافة.
أنت مكشوف للجميع: حكومات وشركات وأفراد. هم يعرفونك ويحفظون أسماء أطفالك وصفوفهم الدراسية وأمراضهم الوراثية وعدد قمصانهم. نحن في عالم بلا أسرار. حتى أقاربك الذين لا تشعر بمرورهم في ملفك، هم يرصدون تحركاتك. وإن أردت التأكد، أذكر أحدهم بسوء وستر. هم أبراج مراقبة (كما وصفتهم ذات كتابة على جدار في صفحتي).
كما أن لكل ساقة لاقطة، فما من كلمة تذهب هدرا في هذا الفضاء الواسع الأضيق من قرية زمان. حتى ولو تراجعت عنها. والشواهد كثيرة على من دفع حياته ثمنا لكلمة، أو أنه لبث في السجن جراء فكرة بثها ونشرها، وهو لا يدري أنه مرصود.
سلطة الأخ الأكبر أكبر من أن نتصورها. هي قريبة حد الهمسة والنبضة والزفرة. ولهذا سيحلو لمن ضاق ذرعا بالكوكب اللافتراضي، أن يصرخ متمنياً لو أن الأرض حافلة لطرق على الشباك بقوة صائحاً: (نزلني هون).
سيكون لزاما عليك أن تتفنن بإخفاء موقعك إن استطعت. فاينما ذهبت سيسألك هاتفك الحشري. هل أدرج موقعك الحالي على الشبكة؟ فإذا وافقت فسيظهر لقائمة أصدقائك، أو لعموم البشر، أنك في (مطعم) في شارع المدينة المنورة رفقة زميلة لك. عندها ستتحمحم ربة البيت وتشحذ قنابلها، وسترسل لك بعضا من شواظها: (وبتقول إنك نزلت عالبحر الميت مع الشركة ها. طيب يا كبير بترجع وبنتفاهم).
البيت الزجاجي مصطلح أول ما أستخدم في الزراعة؛ ليدل على البيت البلاستيكي، الذي يسرع بنضج الخضار، ويوفر له دفئا كبيرا، وهو ما يفسر وجودها في كل المواسم (كانت مقصورة على موسم واحد)، ثم استخدمه علم البيئة ليشير إلى ازدياد غازات أول وثاني أكسيد الكربون وعموم الغازات الدفئية والفيريونات، حيث تسمح لأشعة الشمس بدخول الغلاف الجوي الأرضي والارتداد منه، لكنها لا تسمح للحرارة أن تنفلت وتعود أدراجها. وهو ما يفسر ارتفاع درجات حرارة الأرض جراء ازيداد تلوثها بتلك الغازات عقب شراهة إستخدامنا وسائل الطاقة الكلاسيكية.
استعرت البيت الزجاجي لوصف حياتنا الجديدة المكشوفة لكل إشعاعات المعرفة والمراقبة أو التلصص وحب الفضول، وكشف العوارات والاعتوارات. وقد ترتد هذه الإشعاعات عن عالمك، لكنها بكل تأكيد ستترك وهجها؛ فترتفع حرارتك، وتشيط نفسك، وتلتهب مشاعرك وتحترق نفسيتك، وتتكدس فيك سموم الغيظ والنفور، وستجعلك تشعر بالإختناق. عندها ستتمنى لو تعود إلى الغابة وحياتها، أو إلى الكهف الأول حيث لا ضوء يراك أو تراه.
الدستور