الاستعصاء السياسي وسيناريوهات المستقبل في العراق
كنت في بغداد حين تساقطت الصواريخ البالستية للحرس الثوري الإيراني على أربيل في إقليم كردستان العراق، والمؤكد أن ارتداداتها السياسية أكثر وقعا، وتأثيرا من الأضرار المادية التي أحدثتها.
أربكت الصواريخ التي أعلنت طهران لأول مرة المسؤولية عنها المشهد السياسي في بغداد، وزادت من حسابات الربح والخسارة للأطراف المشاركة في العملية السياسية، وأصبحت هذه الصواريخ ورقة للمساومة، وللمفاوضات في صراع الرئاستين (الحكومة والجمهورية)، فتزيد من فرص ذاك الفريق، وتُحرج، وتُضعف فريقا آخر.
الصواريخ الإيرانية صعّدت من سخونة وتعقيد الوضع في العراق، ودفعت إلى الواجهة أسئلة مهمة، أبرزها: هل زادت من رصيد رئيس الوزراء مصطفى الكاظمي، وعززت قوته، وفرصته بالعودة ثانية إلى رئاسة الحكومة؟، وهل أعطت للتحالف الثلاثي (مقتدى الصدر، محمد الحلبوسي، مسعود برزاني) قوة إضافية في صراعهم مع "الإطار التنسيقي" الذي يتصدره نوري المالكي؟ أم أن "الإطار التنسيقي" حصد مكاسب عند طهران باعتباره الحليف الأقوى، وبالتالي ستضع إيران "فيتو" على أي حل سياسي لا يضمن توافق الأطراف الشيعية، وفي مقدمتها الموالية، والأقرب لها؟
طوال أربعة أيام كنت ألتقي وأستمع للسياسيين وصانعي القرار في بغداد، وأستقرأ معهم تفاصيل المشهد، والسيناريوهات القادمة، وأول ما يجب أن يوثق أن الكاظمي كان حاسما في إدانة القصف الإيراني لأربيل، وفورا عقد اجتماعا لمجلس الأمن القومي، وزار أربيل بعد استدعاء السفير الإيراني في بغداد، وإبلاغه احتجاج السلطات على انتهاك سيادة العراق، بغض النظر عن صحة المزاعم الإيرانية بأن ما قصفته موقع استراتيجي للموساد الإسرائيلي، وأنه استُخدم كقاعدة انطلاق لضرب مصنع الطائرات المسيرة في كرمنشاه بإيران.
المعلومات المتسربة من مصادر وثيقة الاطلاع قالت إن طهران قدمت للحكومة العراقية وثائق تشير إلى تواجد وتورط أجهزة استخبارات من بينها الموساد في أعمال عدائية ضد طهران انطلاقا من كردستان العراق، وكان الرد العراقي حاسما بأن ذلك لا يعطيكم الحق بانتهاك سيادة العراق، وعليكم إبلاغنا ونحن نُحقق، ونتصرف.
"الإطار التنسيقي" لم يُدن الاعتداء الإيراني لحساباته السياسية مع طهران، ولمخاوفه من صدق الكلام عن تواجد استخباريّ للموساد هناك، والتزم الصمت، وترك الحكومة في الواجهة تقلع شوكها وحدها، وربما في الغرف المغلقة تكون المقاربات للتعامل مع هذه الأزمة مختلفة.
بيان الزعيم مقتدى الصدر زاد من منسوب التصعيد، ويشي أن الحوارات مع "الإطار التنسيقي الشيعي" لا تسير بشكل مريح، وربما مضمون البيان يفتح له أبوابا لزيادة التمكين داخل المكون الشيعي، وخاصة باستقطاب الكتل والنواب المستقلين، أو بتفسيخ "الإطار" من الداخل، والقدرة على استمالة بعض رموزه.
وهذا يعني إفقاده للحجة بأنه الكتلة الأكبر شيعيا، وقد يؤدي ذلك أيضا، وهذا مهم، إلى فكفكة "الثلث المُعطّل" الذي يسيطرون عليه، ويمنعون عقد جلسة لمجلس النواب ما لم تُقبل تصوراتهم السياسية، وأولها التسليم بمرشح حزب الاتحاد الوطني الكردستاني، برهم صالح، رئيسا للجمهورية، للمرة الثانية.
الزعيم الصدر في بيانه يُغازل المستقلين الذي يُقدر عددهم بـ 40 نائبا، ويؤكد أن الحكومات التوافقية لم تنفع العراق، بل أضرته عاما بعد عام، ودعا للخروج من نفق التوافق إلى فضاء الأغلبية، ومن عنف الطائفية إلى فضاء الوطنية، مُصّرا ورافضا الضغط عليه لتشكيل حكومات تفاهمات وتوافقات مع الكتل الشيعية الأخرى.
الاختبار الحقيقي لموازين القوى، خاصة داخل "البيت الشيعي"، سيكون في جلسة مجلس النواب القادمة التي يُراهن عليها أن تحسم انتخاب رئيس الجمهورية، وتسمية رئيس الوزراء، فإن تمكن "الإطار التنسيقي" من إفشال النصاب لانعقاد الجلسة لغياب التوافق، فالأمر يعني أن "التحالف الثلاثي" لن ينجح في فرض حكومة أغلبية، وواقع الحال أن الأمر ليس سهلا، فالتحاق المستقلين كلهم في التيار الصدري شبه مستحيل، وانفراط عقد "الإطار" ليس هينا، لأنه يجمع مصالحهم في مواجهة قوة التيار الصدري.
قبل جلسة البرلمان في الأسبوع القادم، وهي أشبه باستعراض القوة للفرقاء، فإن المبادرات، والسيناريوهات تبدو أكثر محدودية، وضيقا، ويأتي في مقدمتها أن ينجح الصدر مع حلفائه في إكمال النصاب بالتغلب على "الثلث المُعطل" بالاستقطاب أو التفسيخ، وعندها يستطيعون فرض مرشح الحزب الديمقراطي الكردستاني، أيّا كان اسمه، كرئيس للجمهورية في مواجهة برهم صالح.
هذا المسار الصعب إن تحقق يكون كاسحة للعبور إلى تسمية رئيس وزراء لحكومة أغلبية، وفي هذه الحالة يكون الأقرب لها الرئيس الكاظمي، وإن كان الصدر يمتلك خيارات، وأسماء متعددة يستخدمها في مفاوضاته، وما يُميز الكاظمي أنه يحظى بالدعم الإقليمي والدولي، ويمتلك رؤية، ومشروعا للتغيير في العراق، وسيُكمل الطريق الذي بدأه، ولن ينطلق من الصفر.
السيناريو أو المسار الثاني ألا يكتمل نصاب جلسة مجلس النواب، فتؤجل الجلسة، ويزيد الضغط على الزعيم الصدر للقبول بحكومة شراكة وطنية، تُعيد الأمر إلى نقطة البدء بالتوافقات والتفاهمات لتشكيل الحكومة على ذات الأسس القديمة، بمحدداتها الطائفية والجهوية، وتعتمد على مقاربة الحصص، والنقاط بالمقاعد، ويُعيد هذا السيناريو إنتاج الواقع الذي حكم المسار السياسي منذ سقوط نظام الرئيس صدام حسين.
في النقاشات مع صانعي القرار في بغداد عن تأثيرات الضغوط الإقليمية والدولية لفرض رئيس للحكومة والجمهورية، فإن الإجابات القاطعة كانت تقول إن حسابات المصالح للقوى السياسية في الداخل تتقدم على حسابات الخارج، وإن كانت هناك هوامش للتأثير لكنها ليست حاسمة، مؤشرين إلى الدور التركي في اتفاق، وبناء التحالف السني (الحلبوسي، الخنجر).
السيناريو الأخير في حال فشل المسارين أن يذهب البرلمان لحل نفسه بعد تقديم مقترح من ثلث أعضائه، وتوافق عليه الأغلبية النسبية (نصف زائد واحد)، والمضي نحو انتخابات مُبكرة، وسلوك هذه الطريق ليس محببا، ولا يدعمه حتى اللحظة رئيس مجلس النواب، ولن يقبل بتجرع "كأس سم" التحالف الثلاثي، إلا حين يصبح الخيار الوحيد أمامهم، وسيناريو حل البرلمان والانتخابات المُبكرة؛ هناك من يُروج أن المحكمة الاتحادية قد تفرضه لمواجهة توقف، وتعطل العملية السياسية.
السياسيون في العراق منشغلون في المُكاسرات السياسية، وعودة منطق تقسيم "الكعكة" بين الزعامات الطائفية يدفع بقوة إلى الواجهة استذكار احتجاجات تشرين، فالاستعصاء السياسي، أو طغيان التفاهمات المصالحية يزيد من قناعة سياسيين من داخل البيت الحكومي أن هذه الحالة، هي الأرض الخصبة لانفجار زلزال على هيئة انتفاضة شعبية مسلحة تحرق الأخضر واليابس؛ احتجاجا على حالة الخراب التي آلت إليها الأوضاع في البلاد.
المصدر : الحرة